تعرفت في الطائف على هذا الشاعر والأستاذ الجامعي - والوزير في صيف عام 1396هـ - 1976م وكان وزيراً للصناعة والكهرباء، وقد زرته في مكتبه الصيفي بالطائف في بناية متواضعة بشارع المثناة وكان يتقاسم هذه البناية مع زميله الدكتور سليمان السليم وزير التجارة -وقتها- والقصيبي والسليم هما أول وزيرين سعوديين من المؤهلين -التكنوقراط- يصلان إلى الوزارة في عهد انطلاقة التنمية الكبرى في بداية حكم الملك خالد -رحمه الله- وهما من الشباب الذين تربوا في المرحلة الناصرية ودرسوا في مصر جمال عبدالناصر فكان الشعور القومي والأفكار الراديكالية تطغى على مشاعر ذلك الجيل الشاب، وقد قدر لهما أن يكملا تعليمهما العالي في الغرب فأصبحا في مجلس الوزراء متميزين عن معظم الوزراء.
ذهبت للدكتور غازي صباح أحد أيام عام 1396هـ في مكتبه المؤقت بالطائف وكنت وقتها رئيساً للنادي الأدبي، فاستقبلني بلطف وتواضع.. وكان يكبرني بحوالي عشر سنوات، وخرجت سعيداً من عنده وقد وعدني بإلقاء محاضرة في النادي في موسمه الصيفي الحالي، وعندما رتبنا للمحاضرة وكانت أدبية عنوانها: هل للشعر مكان في القرن العشرين؟! جاءنا جمهور لم نعهده من قبل فقد زاد عدد الحضور عن أربعمائة!! وكنا إذا حضر خمسون فقط نطرب ونتفاءل؟! وقد أحضرنا كراسي إضافية على عجل وضعناها في حوش النادي بقروى.
وقد ذهبت لاصطحابه من مقر إقامته في فندق العزيزية فوجدت معه وزير المعارف الدكتور: عبدالعزيز الخويطر الذي قبل الدعوة للحضور في تلك الليلة الناجحة من ليالي النادي وقد فوجئ القصيبي بأنني وضعت له طاولة وكرسياً مريحاً هو الكرسي الذي أستعمله في مكتبي بالنادي! وقال لي أمام الجميع ضاحكاً إنها المرة الأولى التي يلقي فيها محاضرةً جالسا! وشكرني على هذه اللفتة.
وكانت المحاضرة قيمة والقصيبي على الرغم من زكامه رائعاً، وعلقت على المحاضرة ثم دعوت الدكتور الخويطر للتعليق فاعتذر كما دعوت الدكتور فهد العرابي فتردد ولم يعلق ورفع شاب أعرفه من داخل الصفوف يده طالباً التعليق.. فقدمته وليتني لم أفعل، فقد طفق يكيل للقصيبي ولشعره ما وسعه من التجريح... وندمت لأنني قدمته. واعتذرت للقصيبي بعد ما أفرغ صاحبنا كنانته وحقده، ثم طبعنا المحاضرة ووزعناها مجاناً على حساب النادي بعد أيام فقط من إلقائها، وفي طريق العودة للفندق كررت له الاعتذار، فلم يبد عليه الغضب أو الانزعاج.
وعاد القصيبي للطائف في الصيف عدة مرات - حيث كانت الحكومة وقتها والملك يأتون لقضاء الصيف في الطائف - وذهبت إليه في مجمع الدوائر الحكومية الجديد عدة مرات، للسلام.. وقد استقبلني بسرعة لم أكن أتوقعها ولما دخلت عليه لم أر على مكتبه أي ورقة؟! بعكس كبار وصغار المسؤولين والموظفين الذين يتشاغلون عنك عند زيارتك لهم بالأوراق والمكالمات الهاتفية، ويؤخرون دخولك عليهم. لقد كان القصيبي رائعاً في علاقاته الإنسانية.. ويجعلك تحبه وتحترمه. وبعد شرب النعناع الأخضر والدردشة، انصرف من عنده وقد ازداد إعجابي وحبي لهذا الرجل المتعدد المواهب.
ثم مرت سنوات لم أره فيها ولكنني كنت أتصل به أحياناً كتابة فأرسل إليه بعض كتبي التي تصدر وأتلقى منه رداً جميلاً بخط يده مع تعليق ظريف.. كتعليقه التالي الذي هّمش به رسالة شكر وكان سفيراً في دولة البحرين إذ كتب بخط يده: شكراً على ملاحظتكم البدولوجية؟! وكنت قد داعبته برسالة قصيرة ومعها كتابي الجديد -كاتب وكتاب- وقلت في مطلعها:
عزيزي الوزير -سابقاً- الشاعر الخالد!! وهذه تذكرة بعبارة المرحوم عباس العقاد التي مفادها: أن الموظف أو الوزير عندما يذهب يقال له (سابقاً) أما الأديب والشاعر فلا! وقد حدث وأهداني واحداً أو اثنين من كتبه، وكنت أحصل على بعضها فور صدورها من مؤسسة تهامة للنشر في جدة، ويومها كنت الناقد الأدبي لكتب المؤسسة وكنت أكتب عنها في الصحف المحلية بحيادية -وهذا كان شرطي الوحيد- عليهم.
وقد نشرت مراجعاتي للكتب التي زادت عن مائة كتاب وفيها بعض كتب القصيبي، في كتاب أصدره نادي الطائف الأدبي قبل عشرين سنة بعنوان: كاتب وكتاب.
ثم عّين سفيراً في لندن لسنوات طويلة وعاد للوزارة وللوطن! وقد سمعت خبر إقالته من وزارة الصحة وحزنت جداً وكأنني الذي طُردت من الوزارة! كان هذا شعوري يعلم الله وقتها! وسبب ذلك الشعور لدي ولدى كثيرين غيري هو أن القصيبي كان في مواهبه الإدارية والشخصية وتكوينه الثقافي والوطني والقومي وزيراً ناجحاً، عمل أعمالاً خالدة، فقد قضى على مشكلة انقطاع الكهرباء في المدن - مثلاً - ونفذ مشاريع ضخمة وكثيرة لكهربة القرى وربط المناطق النائية... وحوّل شركات الكهرباء التي كان يملكها أفراداً إلى شركة مساهمة عامة وتشارك فيها الدولة، كما كان حين ت وليه لوزارة الصحة “غولاً” على الأطباء المتقاعسين والممرضات الناعسات في العمل! ولصوص الوظيفة والمترهلين بيروقراطياً! وكان يفتش على المستشفيات والمراكز الصحية والإدارات بنفسه فيتخفي ويفاجئ العاملين على حين غرة في منتصف الليل أحياناً ويتخذ قرارات فورية ضد الكبير والصغير ولا تأخذه في الكسالى أو المنحرفين رأفة ولا يقبل فيهم وساطة!
إن القصيبي نموذج فريد للمسؤول المثقف الواعي المخلص والنزيه، كما كان من المؤهلين التكنوقراط وقد توسل إلى النجاح بوسائل شريفة.. وكان لوالده المرحوم أهمية في وصوله، لمواقفه السابقة مع الحكومة ومع الملك عبدالعزيز بالذات وكان تاجراً في الأحساء والبحرين كما أن أسرته معروفة بالتجارة الواسعة مع سمعة وجاه ومال وصلة بالحكام. مع أن غازي وصل إلى ما وصل إليه بجهوده ومواهبه الذاتية، لا بجاه والده أو أسرته.
أما رنة الحزن التي تطبع بعض قصائده، والكآبة التي يتسم بها مزاجه أحياناً، فيبدو لي أنها ناتجة عن فقده المبكر لحنان الأم، فقد ماتت والدته المرحومة -بإذن الله- في السنة الأولى لولادته.
رحم الله الفقيد الكبير، فقد أفل كما تأفل الكواكب والنجوم.
-
+
- بيروت