في محطتنا لهذا الأسبوع استكمالاً لما بدأناه الأسبوع الماضي في الحلقة الأولى من حوار الزميل الفنان محمد شبيب، مع أحد أبرز رواد الفن لتشكيلي السوري، حيث نقلنا الزميل والفنان التشكيلي محمد شبيب، بما أتحفنا به من حوار نحن في أمسّ الحاجة إليه في هذه المرحلة التي تعيشها الثقافة بعموميتها والفنون التشكيلية على وجه الخصوص.
الأسبوع الماضي حمل الحوار عدداً من المحاور والأسئلة منها سؤال حول تحقيق الفنانين العرب ملامح وهوية خاصة للفن العربي.. التي قال عنها إنها غير ممكنة مفسراً وموضحاً الأسباب، كما تطرّق اللقاء إلى ما خرج به الفنان الزيات بعد مرور خمسين عاماً من البحث عن الهوية والذات على المستويين الفردي والجمعي، وأين يقف الفنان الياس زيات... وما الذي حققه على المستوى الشخصي كفنان.. وجاء أيضا ضمن أسئلة الأستاذ محمد شبيب للفنان الزيات سؤال ثقافة التشكيليين وهل هي مرتهنة لحالة من النزوع الشديد للمقارنة مع الآخر والتمسك بالتراث، نتيجة الخوف من سطوة الثقافة الغربية على هويته العربية، أم أنها تنسحب إلى مثقفي الأمم الأخرى؟.
اليوم نعود بكل سعادة لننهل من نهر هذا الرجل الذي يمثل مرسماً وكتاباً ومعرضاً في وقت واحد، لنتعرف على ما قال عن كيفية تعامله مع لوحاته وما قيل عن تأثره بالأيقونة التي لم يكشف النقاد حقيقتها .. وعن الأشياء التي أصبحت بالنسبة له ملكات، وعن الأبعاد التي نزع بها الفنانين المسلمين إلى المطلق.
نترككم مع الجزء الثاني من حوار الزميل محمد شبيب وحواره مع الفنان الياس الزيات الذي جاء كما يلي:
الياس زيات الآن الباحث والناقد كيف يمكن أن يوجز لنا بلمحة ما لم يتمكن الناقد والمتلقي من قراءته في لوحته الفنية ... ؟
- أحياناً أقرأ لوحتي وأحياناً لا أدري كيف أنجزتها، لست أعي دائماً المحرضات التي قادت إلى اللوحة، ثمة جانب واع وآخر غير واع، ثمة شيء مقصود وآخر عفوي ... إنه الفن.
وكل من كتب أن الزيات تأثر بفن الإيقونة لم يقل كيف ولم يتطرّق لآلية وأدوات هذا التأثر، ولم يعرف ما الذي أخذته من الإيقونة. أولاً الإيقونة يجب أن تنقل الواقع إلى رمز دون أن تخفي الملامح الإنسانية، لأنّ الإيقونة هي تجسيد للصورة البشرية التي تألهت بسموها إلى المطلق في شخص القديسين والحواريين والمتصوفة. الآن إذا كانت هذه هي الإيقونة فما الذي أخذته منها؟ لقد أخذت هذه النزعة إلى تصوير الشكل الإنساني في طابعه التصوفي الذي أردته لها كنزعة إنسانية وليس كنزعة دينية. لم أشأ أن أصور قديسين وإنما صورت إنساناً مناضلاً، أو حملته حساً نضالياً يمكنه من التطلع إلى غد أفضل، وقد تجلى ذلك حين تحمست للقضية الفلسطينية ورسمت الشهيد، الشهيد المصلوب والشهيد الفارس الذي يحمل غصن زيتون. ثمة أمر آخر أخذته من الإيقونة، إنه التقنية، كيف تبنى الإيقونة مادياً وهندسياً وأسلوبياً. هذا التأليف الهندسي الذي نراه في الإيقونة استمدته الإيقونة من الفنون الكلاسيكية. إن التركيب والبناء الهندسي أمر هام بالنسبة لي في عملي، وهذا ما أعاينه في الإيقونة والأعمال الكلاسيكية. أحب أن أقتبس من الإيقونة الفكر التأليفي، الفكر الهندسي، أنا أقوم برسم العديد من الدراسات والرسوم التحضيرية ثم أدعها جانباً، وعندما أريد أن أرسم لوحة أرسم عناصرها كمفردات، ثم أجمعها في الموضوع، وأعمد إلى إيجاد العلاقات الخطية واللونية بينهما (العلاقات الهندسية) دون اشتراط استخدام المسطرة، ثم أرسم التأليف على اللوحة دون أن أبقيها على واقعيتها الموجودة في الدراسات، وإنما أحوّلها إلى علاقات لونية أو بمعنى آخر حلول لونية تحافظ على التركيب الهندسي، علماً أن الرسم غير اللون ( في التقليد القديم اللون يلون الرسم ) أما في الفكر الفني المعاصر، فاللون أمر مختلف. في النتيجة أحاول جمع هذه العناصر مع بعضها وفق رؤية فنية، وهذا ما أخذته من الإيقونة.
إذاً أنت تفصل اللون عن الرسم وتتعامل مع كل منهما ككيان أو عنصر له استقلاليته ومنطقه الخاص ... هل هذا تجريد؟
- لا أنا لست تجريدياً...!
هل هو منطق تجريدي؟ أقصد فصل الرسم عن اللون بشكل تام؟
- هذا قمة التجريد ... والذين وصلوا إليه قلائل جداً في تاريخ الفن المعاصر. وهذا المنطق حاولت الابتعاد عنه تلقائياً، بيْد أنني في قرارة نفسي أرى أن ذلك هو قمة التجريد.
لما ابتعدت عنه؟
- لأنني لا أريد الابتعاد عن الشكل الإنساني، فهو العنصر الأهم بالنسبة لي في اللوحة.
سنقترب أكثر من شخصية الفنان الزيات لنتساءل: كيف تبحث عن موضوع لوحتك، بدءاً من الفكرة وصولاً إلى إمضاء العمل؟
- أحياناً أبحث في مخزوني الفكري والثقافي عن موضوع لوحتي، وأحياناً أخرى يدعوني الموضوع ذاته - سواء كان تاريخياً أم أسطورياً أم إنسانياً - للرسم، وهذا مرتبط بالحالة التي قد تنجم عن مشاهدة الواقع، أو غير ذلك. حين أعتمد الموضوع أبدأ بالتخطيط له من خلال مجموعة من التخطيطات والدراسات الأولية، عند ذلك قد تقود واحدة من هذه الدراسات إلى اللوحة حتى وإن تغيرت على سطح هذه اللوحة. وإما أن أترك تلك الدراسات وأحاول تصورها على قماش اللوحة. وبطبيعة الحال لن تكون مطابقة للصيغة النهائية ولكنها في الغالب تكون قريبة منها. يمكن القول إن ثمة دوراً محورياً يقوم به الذهن والحلم في هذه العملية.
هل ثمة آلية موحدة للبدء باللوحة لديك ؟
- لا توجد آلية ثابتة، لأن ذلك يعني وجود بُعد حرفي في العمل. في الفن ثمة حرية وتلقائية يحاول الفنان تنظيمها بقوانين ولكنها ليست كالقوانين الرياضية الصارمة، إن شئت الحقيقة فإن الرياضيات الحقة والعلم الحق تكمن في الخروج إلى الرياضيات النسبية المطلقة التي لا يفهمها العامة، حين تصبح الرياضيات فلسفة، عند ذلك تكون قد وصلت إلى قمة التجريد.
من خلال متابعتي لتجربتك الفنية والغنية، يلاحظ تميز في الرسم وقدرة عالية على التلوين، بالإضافة إلى وجود فكر عميق يقود عملك الفني، هذه الأدوات المذكورة كيف يستثمرها الفنان الزيات؟
- هذه الأشياء نسيتها الآن... لأنها أصبحت بالنسبة لي ملكات، كما أن ما تشير إليه من قوة يراه البعض ضعفاً.
كيف؟
- مثلاً فاتح المدرس ينظر إلى هذا الرسم والتلوين بصورة مختلفة، فمفهوم الإتقان عند فاتح المدرس يختلف عن مفهومه لدي. دعك من فاتح المدرس كي لا يأخذ الأمر منحى يؤدي إلى إجراء مقارنة بيني وبينه. لنأخذ على سبيل المثال رسوم الواسطي في مقامات الحريري ونقارنها مع المنمنمات الفارسية والفارسية الهندية، نجد أن منمنمات الواسطي وغالب المنمنمات العربية في الكتب المصورة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في مدرسة بغداد أو الموصل تختلف عنها بشكل لا تخطئه العين، حيث إن الفنان العربي يكتفي بعرض فكرته بخطوط بسيطة ومساحات لونية مسطحة، فالإتقان لديه هو تجسيد الفكرة وحسب، في حين نجد في كل من الفن الفارسي والهندي والبيزنطي إتقاناً في الرسم يقرب من الكمال، وخاصة في الفارسي والهندي. إن هذا لا يعني أن الفن العربي أقل شأناً من تلك الفنون كما يذهب إليه العديد من المحللين الغربيين، بل إن الأمر منوط بالغاية المتعلقة بهذه الرسومات.
هل هي خاصية إسلامية؟
- أنا أسميها خاصية للفكر الشرقي العربي.
أخيراً ومن خلال العديد من الأبحاث التي قرأتها لك، أكاد ألمح تأثيراً للفن الإسلامي على تجربتك الفنية؟
- الفن الإسلامي متعدد الوجوه، فهناك الرسم التشخيصي كالمرقنات الموجودة في الكتب، وكذلك الجداريات الموجودة في القصور الأموية كقصير عمرة والمشتى وغيرها، بالإضافة إلى وجود فن زخرفي إسلامي له أبعاده الرياضية والتصوفية والذي يجد منطلقاته في نزوع علماء المسلمين للمطلق، حيث وضعوا أساساً تصوفياً لزخرفة إسلامية أصبحت الآن نمطية تكرر بمسميات مختلفة دون وعي الصناع الذين يمارسونها لأصولها الزخرفية والفلسفية، وهناك الخط العربي الذي تطوّر عن الكتابات الموجودة في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، حيث تطور إلى الكوفي أولاً فالمدور ثانياً، ثم تطور في الفترة العثمانية إلى الخط المتقن الذي نراه اليوم كخط الثلث والفارسي. بالنسبة لي يمكنني القول إنني تأثرت بشكل مباشر وعميق بالرسم التشخيصي العربي الموجود في كتب الأدب والمقامات والجداريات الأموية والعباسية التي لم يبق منها إلا القليل. تأثرت بطريقة التعبير عن الإنسان، بالنسب المتبعة في رسم الأشخاص، تأثرت بمفهوم الإتقان بالمعنى الذي ذكرته سابقاً، ولكني لا أنظر إليه على أنه فن إسلامي وإنما كفن عربي.
-
+
monif@hotmail.com