(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).. المائدة (8).
في مساء المعرفة
يشرق العقل بنور الكلمة
حين تحويها شفة
وتعليها لغة
حينما تستيقظ الذات مع الذات
وذو الذهن مع الآتي
حينما يأنس شطُّ البحر موجه
ويمدُّ الضوء للمدلج أوجه
وتغنينا الدلاء
وانثيالات الوفاء
**هاهنا إشراق غيمة
وحنين الوتر الغائب في أعماق خيمة
أشار «بيتر دراكر» -وهو الأشهر بين علماء الإدارة الحديثة- إلى أن الغرب قد تسنّم مقاليد العالم بعد عام 1500 عندما أعاد تنظيم مدارسه وفقاً للتقنية الجديدة إذ ذاك، وهي الكتب المطبوعة.
وقبله استطاعت الحضارةُ الإسلامية التفوق حين انفتحت أمام الثقافات الأخرى، وعزّزت حركة الترجمة منها، وقرّبت العلماء من غير أهلها، وهو ما حققته الثقافة الأميركية التي أطلق عليها إدوراد سعيد لقب «الثقافة الهجينة»، وربط بين التطور المادي/ التقني للنظام الرأسمالي والتطوير الثقافي، وأكد في كتابه: (الثقافة والإمبريالية) أن ثراء الثقافة مرتبط بتهجينها.
إذن؛ فهي فجوة المعرفة تفصلنا عن العالم الأول، وقد عبّر سعيد عن المشكلة بمقولته: «الزمان معركتنا والمعرفة سلاحنا..»، وقديماً قال ابن خلدون: «لغة الأمة الغالبة غالبة، ولغة الأمة المغلوبة مغلوبة».
الصراع الثقافي هو صراع الساكن والمتحرك من جانب، وهو ذاتُه صراع الفكر الباحث عن الشهرة والانتشار والمريدين مع الفكر المتعمِّق في الكينونة والصيرورة والإرادات، وهو صراعُ آليات ومواقع ومواقف، ولن يضير الباحث عن الحق إن وجد نفسه دون تابعين، وسيضير سواه إن صار تابعاً رغبة الناس وشهوة النجومية ثم توهم أنه متبوع..!.
كان لنا أن نعتني بتخليق الذات الجماعية التي لا تقتصر على محورية الذات بل مشاركة الآخر، وكان علينا فتح الاجتهاد في القضايا الخلافية، وتجنب الإسراف في الجزم والعزم، والنأي عن محاكمة النوايا والاختباء في الزوايا؛ والالتفاتُ إلى معطيات الغد.
ووفق ما أشار إليه «ألفين توفلر» صاحب صدمة المستقبل والموجة الثالثة فإن المعرفة هي المحور الذي تدور حوله حروب المستقبل وثوراتُه الاجتماعية؛ ما يعني أن الغد متاح للمجتمعات المعلوماتية العلميّة، وفي رأي «توفلر» فإن المعرفة بديلٌ للموارد الأخرى، وبها وحدها ستقل الحاجة إلى المواد الخام والعمالة ورأس المال، وهنا ستكون السلطة بيد المعرفيين، وبهذا تقدمت النمور الآسيوية على الدول العربية وأميركا اللاتينية.
المجتمع المعرفي هو الذي يُعلِّم ويتعلم، ويصل ولا ينفصل، ويصنع الأنظمة ويتقدم في التقنية، ويتحرك في اتجاهات الآتي واحتياجاته، ويحثُّ على التفكير والابتكار لا الاجترار والاستظهار والاستدبار.
العلم منطلَق والرقم دلالة؛ فنسبة دارسي العلوم والرياضيات على مستوى العالم العربي لا تتجاوز 5%، كما أن نسبة الباحثين العرب (من درجتي الماجستير والدكتوراه) في التخصصات ذات الطابع العلمي هي 3.3% باحث لكل ألف فرد بين الرجال وأقل من ذلك بالنسبة للسيدات، وما الظنُّ اكتفاء الغد بهم.
وحين انطلقنا من المسارات الأرضية إلى الأطباق الفضائية رأينا من يعالج الأدواء بالأنواء والأهواء، وهنا يُرتهن المجتمعُ؛ فينزوي الطبيبُ والعالمُ والمفكرُ ليسود قارئو الكف ومحللو الأبراج ومفسرو الأحلام، وما موقع أولاء في عالم الغد؟.
ومع الرقم نسير؛ فمن بين أكثر من (700) قناة فضائية عربية -وفق إحصائية عام 2009م- لا توجد سوى بضعِ قنوات ثقافية، أما البرامج الثقافية في القنوات العامة فلا تكاد تذكر، في مقابل (115) قناة غنائية و(56) قناة رياضية و(97) قناة أفلام، و(39) قناة موجهة و(97) قناة حكومية، وفي الرقم ادكار واعتبار لمن يعنيه الغد.
في الأساطير العائدة للفترة السومرية في بلاد ما بين النهرين، تجيئ حكاية تزعم أنه لم يكن ثمة خوف، ليس للإنسان عدو، وفي نص آخر يعود إلى مصر الفرعونية، وجد الأسد والذئب غير أنهما لم يكونا مفترسين، وكان للغراب صوت الديك الباعثُ على الطمأنينة لا نعيقُه المؤذن بالخراب؛ فأين الأمس وكيف الغد؟.
وإذاً فمنذ الأزل والإنسان يعشق الحياة الرخاء التي لا يسيطر فيها باغٍ يسود أو مؤدلج يقسرُ الناس على طريق مسدود، ومنذ الأزل والحياة تنوع والأحياء متعددون؛ ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ?.. هود (118).
وفي الخاتمة وقفةٌ؛ فحين نشر أرسطو بعض محاضراته بعث إليه الإسكندر المقدوني قائلاً: «لم تحسنْ صنعاً فقد كنت أفضل أن تبقى دروسك سراً نغلب به الأمم»، فأجابه: «لكني أفضل قوة العلم لا قوة السلاح..».
تداعياتٌ واستدعاءاتٌ في مفتتح النسخة الثالثة من مهرجان عنيزة الثقافي استشهدت بالمختلف المؤتلفِ فلعلنا نصل إلى فضاءٍ مشتركٍ يتوجهُ للغد ويخلصُ للحقيقة.
حينها يستيقظ الغائب والعائب والعاتب والصوت الطريح
ويرون الأفق القادم ذا لون مريح
ونلاقي الفكر بالفكر
وكلٌ مستريح.
* كلمة المهرجان الثقافي الثالث بعنيزة ألقيت في حفل الافتتاح
السبت 19-3-2011م