عندما يشاهد أحدنا فيلماً سينمائياً أو دراما تلفزيونية - هل سأل نفسه مرة عما إذا كان يرغب أن يعيش داخل ذلك الفيلم أو المسلسل، يتحرك مع الشخصيات ويؤثر في الأحداث ويتأثر بها؟ فكرة قد لا تخطر على بال الكثيرين بهذه الصورة المتبلورة بالرغم من أنهم يتفاعلون، دون وعي، مع أحداث ذلك العالم الخيالي - الواقعي شاعرين أحياناً برغبة دفينة في تغيير مجرى الأحداث لتتفق مع أذواقهم أو أيديولوجياتهم، أو الإبقاء عليها كما هي لأنها تلبي حاجاتهم العاطفية والعقلية.
طرحت هذه الفكرة على بعض الزملاء فقوبلت بالاستغراب بل بالسخرية التي أقفلت باب النقاش المحتمل، نقاش ربما أفضى إلى أفكار وآراء نشعر بها ولكن لا نعبّر عنها. لكني وإزاء ردة الفعل هذه من الزملاء وضعت هذه الفكرة جانباً فربما تتبلور لدي بصورة أوضح وأكثر تفصيلاً في القادم من الأيام.
حتى قرأت، وبطريق الصدفة، مقالة للكاتب (مايكل ود Michael Wood) في مجلة
((London Review of Books تحت عنوان “ عن الأفلام” At the Movies في عددها الصادر بتاريخ 25 فبراير 2010 يناقش فيه العالم السينمائي الذي يبدعه المخرج الياباني (ياسوهيرو أوزو Yasujiro Ozu)
ويبدأ بالقول إن كثيراً من صانعي الأفلام يبدعون عوالم نتخيل أننا يمكن أن نعيش فيها، إلا أننا لا يمكن أن نعيش في عوالم (أوزو) السينمائية، لا لأن أفلامه عاجزة عن إبداع عوالمها أو لأنه لا يمكننا أن نفهم أو نتعاطف مع ما يجري فيها، بل لأن (أوزو) يضعنا كمتفرجين بشكل متشدد ومدقق في التفاصيل على حافة عالم لا يمكننا الدخول فيه أو إعادة تصوره. ثم يقول إننا كمتفرجين من ناحية لا نريد عالماً متكاملاً بدون وجودنا فيه. لذا فإننا نضع أنفسنا داخل الأفلام، ومن ناحية أخرى نريد عالماً متكاملا بدون وجودنا فيه ولذا فإن أفلام (أوزو) يمكن أن تسكننا أشباحه.
هذه مقدمة لنقاشه بعضا من أفلام (أوزو) يثبت فيها نظريته. الشاهد هنا أن الفكرة التي بدأت بها هذا المقال لا تبدو فكرة غريبة في عالم النقد السينمائي في الوقت الحاضر.
فإذا أخذنا بنظرية (مايكل ود) فربما كان العالم الذي لا نريده متكاملاً دون وجودنا فيه هو عالم الطفولة ببراءته وسحره عندما يدركنا الحنين إلى مراتعه، وقد تأخذنا رغبة ملحّة في تغيير بعض ملامحه ليصبح الحاضر أكثر إشراقاً وطواعية. أما العالم الذي نريده متكاملاً دون وجودنا فيه فهو عالم التجربة المرة التي نجونا منها وتركناها وراءنا ذكرى تحفل بالكوابيس والمنغصات، ونريد مع ذلك أن نطل عليها من بعيد، من حافة الصراع، لنتبين أكثر فأكثر تفاصيلها ومقوماتها ونتائجها المنطقية وغير المنطقية، وحتى لو أتيحت لنا الفرصة افتراضياً بطبيعة الحال أن نغير مجرى أحداثها فربما نتخلّى عنها يأسا من إمكانية التغيير أو خوفاً من التلظي بنارها مرة أخرى.
كل هذا مرهون بنوعية الفيلم أو المسلسل التلفزيوني وقدرة مخرجيه على انتزاعنا من عالم الواقع المحيط بنا من كل جانب وأخذنا إلى عالمه الخيالي الذي سرق أسر الواقعية طيلة عرض الفيلم بالذات، لأن الفجوات الزمنية في عرض المسلسل تعيدنا إلى مكبلات عالم الواقع من جديد.