مشرعةً ضلفتا النافذة على شمس مارس الخجولة، تتطفل عليّ من الزجاج، تُسقِط شيئاً ما في دمي، الذي يواصل شعوره بالمرارة، حين كانت الدقائق تمضي بطيئة وناعسة، لكنها لا تكف عن حبس العصافير المحلقة في دواخلي، وإشهار تلك الشكوى، الآتية من أعماق الحديقة، المدفونة في عروق يديّ الآثمتان بالكتابة، وأستعيد أصوات حالكة وثقيلة، لا تكف عن التسلل إليّ، وإلى ذلك القلب الذي لم تبرأ جراحه، حين ذلك المكان ورائي، ينسخ نفسه كل دقيقة في يومي.
أستعيد الحزن وفداحة الفراق، للذين قضوا تحت قصف الطائرات، واجتياح الدبابات، وملاحقات المرتزقة، ويجعلني أخاف وأحزن، أحزن وأنا أحلم بالجبل الأخضر، وتفاحه الذي هجر لونه، وبادل رائحته بالدم، وثقوب الرصاص في الصدور، ومؤخرة الرأس، وعند الصدغين.
أحلم بشلالات سيدي منصور، وآثار سوسة، وكهوف درنة، ووديان ظهر الحمرا، ومغارات عمر المختار التي في شرود جبالها، استيقظ ضجيج القتلة، وصراخ عصابات المأجورين من كل مكان، مثيرةً القتل الجماعي، والخطف الجماعي.
كنت كما كل يوم، أحلم بنجوم الزاوية، التي كفت عن الصلاة، وبمصراتة، التي تتشبث بملكيتها في قلبي، وتتشبث أكثر، بقدرتها على نهشه، وساحات اجدابيا، القادرة من هناك، على تخريب لياليّ، التي لا تكف عن الأرق والأنين.
كنت كما كل يوم، أحلم بعشرات الأماني بزوارة، لا تعبأ كثيراً بالخروج إلى الشرفات، شرفاتها التي لطالما شعرت أنها تغرق وتغرق، فيما يكفي من الليل، والعالم من حولي، بمصالحه الجشعة، وساساته الوسخون، ينظرون حولهم بلا أدنى اكتراث، لما يدور خلف أبواب مئات البيوت، بتاجورا وجنزور وفشلوم وسوق الجمعة والظهرة وبن عاشور والسياحية والهضبة وسيدي خليفة، وقلوبهم المثخنة بالوعود الكاذبة، تعامل بلا تكريم، أولئك الذين يموتون سحلاً وقنصاً كل لحظة.
ترحل عيناي، لكل تلك المدن التي تُخاطر أكثر من غيرها، الزاوية، زوارة، الزنتان، اجدابيا، راس لانوف، نالوت، الرجبان، تقاتل بقوة الأمل واليأس، لأجل أن تستعيد ذلك النصر، الذي يتفلّت منها مرات ومرات، تقاتل وتقاتل دون أن تعلن عن ضجرها.
توقظ ألمي على حقول من الشوك، حين هناك، مقدرٌ لها أن تتحمل وحدها كل تلك الآلام، وأن يكون عليّ - حتى بهولندا - أن أستمر في شعوري بالفقد.
يكاد لا يسعفني الهلع، حين أود أن أكتب عن طرابلس، عندما تنطلق مدافع استلينج الرشاشة، مُثبتة بسيارات الجيب المكشوفة، مُصوبة فوهاتها نحو الجنود الشرفاء والمدنيين العزل - حتى من أي إيدولوجيا أو مشروع سياسي - تحصد بضغينة وتشفٍ، مئات الأرواح البريئة، والمعاقبة على ذنب واحد، أنها رفضت التورط في إهراق الدم الليبي.
يكاد لا يسعفني الهلع، حين يرتد إلى مصراتة، تعلن تخليها عن ساحاتها، وحدائقها، للذين يقضون كل يوم، في الشوارع ، والأزقة، وعلى مداخل الأبوب.
وأنا هنا، لا زلت أواصل النظر إلى حفنات الضوء المتلصصة من النافذة، في صباحات ربيع هولندا الباردة، لعلها تُحدث تغييراً هناك، فتحبس بمعجزة ما، الظلمة بعيداً عني، وأتذكر بالرغم مني، تلك الأيدي النذلة، تريد أن تجعل من الذي كان كأنه لم يكن، تريد بوقاحة، أن تتجنب وضوح الأشياء، وأن تخنق كل محاولات الفرار من القيود والتكميم.
كاتبة ليبية مقيمة بهولندا
wafaelbueise@hotmail.com