ما إنْ ينتهيَ معرضٌ للكتابِ حتى يبدأ التخطيطُ لآخر، من خلال لجانٍ تتفرّع منها لجان، ينخرط في عضوّيتها (أكاديميون)، و(مثقّفون)، و(مبدعون)، يصلون ليلَهم بالنهار؛ بحثاً عن نوافذ للتجديد، وشرفاتٍ تخلقُ فينا حالاتٍ من الوعي الجميل، لكنّ هذا التخطيطَ يصطدم – وكثيراً ما يصطدم - بتخطيطٍ آخر، يقوم به إخوتنا المحتسبون؛ لإنكار المنكرات التي يعجُّ بها معرضُ الكتاب (هكذا يقولون)؛ إذ يخرجون جماعاتٍ وأفراداً، تحتَ إمرة بارزة أو مستترة، ينصحون بحكمةٍ في موضع وبطيشٍ في آخر، وحين يعترض طريقَهم أحدٌ يخوِّفونه بالله أو بأحدٍ من خلقه .
هذا الاحتساب (لا أتحدّث هنا عن رأيي فيه) أربك حركةَ معرضِ الكتاب في أكثر من عام، وأسهم في خلخلة جدول النشاط الثقافي المصاحب، وفيما بين الفعلِ (معرض الكتاب) وردِّ الفعل (عملية الاحتساب)، وفيما بين التخطيط والتخطيط المضادّ، ضاع الكتابُ والاحتفالُ بالكتاب، وفاتنا جيلٌ جديدٌ، اقترب من دائرة المعرفة؛ ليذهبَ بعيداً عنها.
من يقارب هذا المشهدَ الملتبس يشعر بأنّ هناك أطرافاً ترغب في استمرارية التباسه، بل تحاول – ما استطاعت – تكريسَه وتفويقَه، وإلى جوارها أطراف أخرى تسهم بسذاجة تركيبتها الثقافية، واختلال جهازها القرائي، في إبقاء المشهد الثقافي على هذه الحال المزرية (حال التصادم والتضادّ) .
في هذه المقالة – وفي مقالات لاحقةٍ – سأشير إلى هذه الأطراف ضمناً، وسأحاول توصيفَ المشهد، ثم تقديم مقترحٍ لعلاجه .
حين تدبرتُ ردَّ فعل المسؤولين والمثقّفين على ما جرى في معرض الكتاب هذا العام، وفي معارض وأنشطة ثقافية سابقة، وجدته يتسم بسمتين:
أولاهما: الاستهانة بأثر هؤلاء المحتسبين في المشهدين: الثقافي الخاص والاجتماعي العام، والنظر إليه كما لو كان زوبعةً في فنجان، أو جعجعة لا تخلِّف طحناً، أو شيئاً من هذا القبيل...، ولقد انصرف بعضُ المثقفين إلى تنضيد أسطرٍ من السخرية بالمحتسبين وأثرهم، ومنهم من تجاوز حدّ المعقول حين أطلق عليهم صفاتٍ لا يمكن قبولها حتى في لحظة الغياب المطلق للوعي، من مثل: (النسونجيين)، و(أعداء العلم)، و(الإرهابيين)، و(الخفافيش)؛ وأقول لا يمكن قبولها لأنّ هؤلاء المحتسبين طالبوا أكثر من مرة بأيام خاصة للرجال فهم إذن ليسوا (نسونجيين)، ومارسوا عملية شراء الكتاب وقراءته فهم إذن ليسوا من أعداء العلم إلا إذا قصرنا العلمَ على قراءة (محمود درويش) و(نجيب محفوظ)!! ثم إنهم لم يتحزّموا بحزام ناسف ولم يزرعوا لغْماً ولم يسفكوا قطرة من دم فهم إذن ليسوا (إرهابيين)، ومارسوا العملية الاحتسابية في العلن، وتحت أعين الإعلام فهم إذن ليسوا (خفافيشَ) ولا سراةً في الظلام.
وعليه فإنّ هذه الأوصاف التي أطلقها المثقّفون على المحتسبين من قبيل الكذب الصارخ، وإن صنفناها سخريةً على سبيل التجوّز، فهي سخرية لا تليق بمثقّف يحمل في عقله تراكماً معرفياً واسعاً، ثم إنها – من وراء ذلك - ليست سخريةً مطلية بالفنّ، بحيث تكشف عما ينطوي عليه المثقّفون من إبداع، ومعرفة ثرّة بالجمال والجلال، كتلك التي نجدها في مكتوبات (طه حسين)، و(الرافعي)، و(نزار قباني)، بل هي سخرية مثقلة بالتقليد، غارقة إلى أذنيها في الانحطاط والرجيع، لا يلجأ إليها عادة إلا من خلا وفاضه، وافتقرت يداه.
ومن تجليات هذه السمة أيضاً إصرار بعض المثقفين على أنّ المحتسبين سينقرضون عما قريب، وأن أثرهم لا يتجاوز المكان الذي هم فيه، وأن الزمن قد تجاوزهم، وأنهم لا يحظون بتعاطف من الجيل الجديد...إلخ، وجميع هذه الآراء من قبيل الاستهانة بالخصم، وعدم الاعتراف به، وبسببهما تلقى المثقّفُ هزيمةً في هذا المعرض وفي معارض وأنشطة ثقافية سابقة .
الغريب في الأمر أن هذه اللغة استُخْدِمت من قبل الحداثيين في منتصف الثمانينيات، فانهزموا، وتفرّق جمعهم، فيما ظلّ المحتسبون كما كانوا يصدحون في الغداة وفي العشي .
ثانيتهما: تشخيص العملية الاحتسابية أو قراءتها بشكل خاطئ، وخاطئ بالقصد – عند بعض المثقفين -، ومردّ هذا التشخيص الخاطئ – بحسب متابعتي – إلى عدم قدرة بعض المثقفين على التخلّص من حالة التبعية الفكرية التي يعيشها، ولا من حالة التكتّلات التي تشتعل مثل النار في بيت الثقافة...، ومن ثمّ لم يستطع الانفلات من أسر الذاتية / الشخصنة في معالجته موضوعاً حيوياً كهذا؛ لذلك أفضى تشخيصه إلى خطأ، وأسهم من ثمّ في استمرارية الداء بل انتشاره في الجسد...، ولن أكون هنا مبالغاً إذا قلت إن من المثقفين والدعاة من أفاد من هذه الواقعة - الوقائع، واستثمرها لصالحه، أو لصالح الخطّ الذي يسلكه.
سأقدِّم هنا نموذجين سريعين على نتائج التشخيص الخاطئ التي وجدتها في معالجة كثير من المثقفين لهذا الملف :
- انتهى بعض المثقفين إلى أنّ عمليات الاحتساب التي نشهدها من حينٍ إلى آخر نا تجة عن التحوّل الاجتماعي الجديد الذي تشهده المملكة ابتداءً من مطلع الألفية الجديدة .
- يرى بعضهم أنها في لحظة الاحتضار، وفي طريقها إلى الموت الطبيعي؛ لذلك لا يرى التحرّفَ إلى مواجهتها؛ لأنها ستزول بمفردها بسبب عيشها خارج الزمن .
من يعرض هاتين النتيجتين على واقع العملية الاحتسابية يجدها مجلّلة بالخطأ من رأسها حتى أخمص قدميها، بل سيجد الحقّ في ضديدها؛ فهي – أولاً - ليست وليدةَ التحوّل الذي تشهده المملكة اليوم، بدليل وجودها مع تحوّلاتٍ أقدم. ويمكن أنْ أضربَ هنا مثالاً بالاحتساب الذي واكب انطلاقة التعليم النظامي للبنين والبنات في منتصف القرن الميلاديّ الماضي، ثم الاحتساب الذي قوّض أنشطة الحداثيين في منتصف الثمانينيات (أشار الغذامي إلى بعض أنماطه في حكاية الحداثة).
وهي – ثانياً - ليست آيلة للزوال، بل على العكس من ذلك تبدو أكثرَ تنظيماً وقوةً مما مضى، فأما التنظيم فيكفي مثالاً عليه لجوءُ بعضهم إلى القضاء؛ استناداً إلى المادة الخامسة من نظام المرافعات الشرعية، وأما القوّة فيكفي مثالاً عليها لجوءُ بعضهم إلى التغيير باليدّ، كما حصل في كلية اليمامة، وفي نادي الجوف الأدبي، وكثيراً ما يعقب العمليةَ الاحتسابية تعطيلٌ لبعض البرامج، وإجراءُ تعديلٍ على بعضها الآخر، وليكن النشاط الثقافي لمعرض الكتاب الأخير واحداً من أمثلة كثيرة على ذلك.
هو إذن احتساب قديم، مارسته أجيال متعدِّدة، وهو متجدِّد أيضاً؛ تتغيّر صوره بتغيّر صور المنكر (على حدِّ وصف المحتسبين)، وتزداد حدّته بازدياد جرأته أيضاً، وهو من وراء ذلك احتسابٌ مدعومٌ بتعاطفٍ شعبي كبير (هذا ما تشفُّ عنه تعليقات القرّاء في الصحف الإلكترونية)، وبتعاطفٍ أكبر وأكبر من بعض العلماء والدعاة المعتبرين .
مما مضى انتهي إلى الآتي:
- أنّ المثقّف هو المسؤول الأول عن استمرار عمليات الاحتساب، وعما تفضي إليه من اختلال أو تعطيل، وذلك بسبب تعاليه على المحتسب، وانصرافه إلى السخرية بأثره بدلاً من التصدي له بمعالجةٍ علمية تحرجه، وتحدّد له – استناداً إلى النظام – حدود تحرّكاته وصلاحياته.
ولهذا التعالي وجوه متعدّدة، أهمها: السخرية الفجّة بذوات المحتسبين وقيمهم، وعدم الالتفات إلى ما يطرحونه من آراء حول بعض الكتب، أو الأنشطة، أو الأسماء، وعدم مناقشتها معهم بأسلوب علمي، ونشر هذه المناقشة في الصحف والمجلات؛ لكسب تعاطف فئات المجتمع كلِّها أولاً، ثم للمساهمة في خلق مناخ للحوار بدلاً من الاكتفاء بالمشاركة فيه.
- أن التشخيص الخاطئ لعملية الاحتساب، والتدخل في إجراء تعديل على ماضيها أو حاضرها كان أحد العوامل التي ساهمت في بقاء المشهد الثقافي مرتبكاً بفعل الاحتساب على امتداد ثلاثة عقود، أو أكثر، تماماً كما أن التشخيص الطبي الخاطئ للمرض سبب رئيس في بقائه وانتشاره .
خاتمة :
لم أرد في هذه المقالة الدفاعَ عن المحتسبين، وإنما أردت معالجة وضع المثقفين قبل معالجة وضع خصومهم، ومنطلقي في هذا حكمة نابليون: «جبان واحد في جيشي أشدّ خطراً عليّ من عشرة بواسل في جيش العدوّ».
(المقالات مستمرّة في قراءة الواقعة)
Alrafai16@hotmail.com
الرياض