بداية أشكر معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة على استضافته لنا وعلى مدى أيام في فندق مداريم كراون الذي شهد حراكاً ثقافياً موّاراً، وبدا مفعماً بالحوار والجدل والرؤى المتعددة العاكسة لألوان الطيف في المشهد المحلي وأيضاً الشكر مضمن بالكثير من المعاني الوجدانية لكافة القائمين على معرض الكتاب لما بذلوه من جهد يذكر فيشكر.
وعَوْداً على محور المقالة فقد وقع في يدي -أثناء تجوالي في معرض الكتاب- كتاب عن ابن تيمية «دراسة في فكره واجتهاداته» للمؤلف أحمد حطيط وقد تصفحت هذا الكتاب وتنقلت بين فصوله فألفيته قد استقى منطلقاته ومرتكزاته المفهومية بطريقة مجافية لروح النزاهة العلمية وقد كان التلبيس التمويهي الذي يقلب الحقائق رأساً على عقب هو المرتكز الذي تقوم عليه مفاصل هذا الطرح كما سيتجلى في السطورالقادمة. ولست هنا بصدد رَدّ تفصيلي يتتبع كل ما ورد من مغالطات وإنما سأقتصر على مناقشة قول الكاتب حينما ذكر أن ابن تيمية ليس: «مراعياً في كثير من الأحيان ما يسمى بآداب الحديث، فكان يبادر من خالفه في فتوى أو عقيدة أو موقف أو رأي بالقول العنيف ولم يترك مخالفاً له إلا وطعن عليه في مجلسه أو في مصنفاته وقلما عرَفََت جولات الشيخ ابن تيمية مع مخالفيه الهدنة أو الاسترخاء، فكان دائم التربص بأنداده من علماء عصره متوثباً لاستدراجهم للنزاع من خلال رأي مخالف لما ألفه الناس منهم، أو حدّة واجه بها أحد مجادليه أوكلام نابٍ وصل حد المس بكراماتهم مما زرع له العداوة في نفوسهم وحقدوا عليه حتى انتقل الأمر بينه وبينهم من الخلاف والجدال إلى عداء شخصي ظاهر وسعى بعضهم حثيثاً للنيل من الشيخ انتصاراً لنفسه التي جرّحها ابن تيمية بقوله» (ص81).
وفي هذه المقالة سيتم تجلية موقف ابن تيمية من خصومه وكيف كان يتعاطى مع مخالفيه بل كيف كان يتعاطى مع مناوئيه الذين جهروا له بالعداء وتعاطوا معه بمنطق الميلشيات الثقافية المرتكزة على التأويل غير المنطقي كمطية ممنهجة لحشر الخصم في زاوية الاتهام!.
إن من نافلة القول التأكيد على أن القراءة النقدية لمنتج ابن تيمية ليست مرفوضة إذا كانت موضوعية وفي سياق فاعلية تنويرية منتجة لأن ابن تيمية ليس معصوماً وليس عصياً على النقد وتراثه ليس وحياً سماوياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو كغيره يخطئ ويصيب ومقوله قابل للفحص والتشخيص التشريحي ولو قلنا غير ذلك لسقطنا في فخاخ التقديس والتوثين الثقافي الذي أول من يرفضه هو ابن تيمية ذاته،وإنما المرفوض هنا هو ذلك التناول النقدي الذي ليس له كبير وزن في مكيال المعرفة الرصينة فهو لا يلتزم بمعايير الموضوعية ولا يستصحب قيمها الأخلاقية بقدر ماهو مسكون بهاجس الإلغاء والشخصنة والإمعان في اقتراف جريرة التزوير المعرفي والتحايل الأيديولوجي على نحو يفقد النقد شروط تجسيد قيمته الوظيفية على صعيد تنمية ديناميكية الفكر.
إن الراصد لخطاب ابن تيمية سيجد نفسه أمام واقع معرفي قوامه قيمة الإنصاف كقيمة ثقافية وكقاعدة عامة تسود في طرحه لا تلغيها بعض الاستثناءات وهذا الإنصاف كحقيقة عصية على التغافل سأرقم شيئاً من تجلياته على النحو التالي:
أولاً: إنصافه للفلسفة وذويها فهو يرفض ما يجري طرحه على صعيد الإلهيات أو على مستوى اليوم الآخر ويقرر أن «ضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس» (الرد على المنطقيين1-201) لكنه يبدي قدراً من الحفاوة في كثير من كلامهم عن الطبيعيات وليس لديه غضاضة في الإشادة بمستوى التعاطي العقلاني من قِبَلهم في هذا المساق ولذا يقرر أن: «لهم في الطبيعيات كلاماً غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم يقصدون الحق ولا يظهر عليهم العناد (تأمل هنا لا يفهم سلوكياتهم على غير وجهها ولا يتكلف محامل للرأي على غير ماقُصد من ورائه) ولكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ليس عندهم إلا قليل كثير الخطأ» (الرد على المنطقيين 1-152).
بل يذهب ابن تيمية إلى أبعد من ذلك حيث يرى أن من بدع المتكلمين وأخطائهم ردهم ما صح من الفلسفة حيث يقول:» وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك علم صحيح لا يدفع والأفلاك مستديرة ليست مضلّعة ومن قال إنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام فهو وأمثاله ممن يردّ على الفلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول مع كونه موافقاً للمشروع وهذا من بدع أهل الكلام» (المرجع السابق 2-17)
بل ويؤكد أن «صواب المتفلسفة (يقصد في العلوم الطبيعية والرياضية) أكثر من صواب من ردّ عليهم من أهل الكلام فإن أكثر كلام أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع» (المرجع السابق 2-62).
إن ابن تيمية لا يحارب الفلسفة وذويها على نحو شمولي مطلق وإنما يتعاطى عبر آلية مفعمة بالإنصاف فهو لا يحكم عليها برمّتها، ولا يرفض كافة مدخلاتها ومخرجاتها جملة وتفصيلاً فالتعميمية خطأ منهجي يتحرى ابن تيمية وسعه للتحرر من الالتياث بمستنقعه ولذا فهو لا يفتأ مقرراً بشكل ينم عن بلوغه شأواً لا يبارى في الإنصاف أن «نفي الفلسفة مطلقاً أو إثباتها فلا يمكن» (منهاج السنة 4-102).
وهذا موقف منصف لا ريب وذلك باعتبار أنه: «ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع، بل ولا في الطبيعيات ولا في الرياضيات، بل ولا كثير من المنطق ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات الشاهدة والعقليات التي لا ينازع فيها أحد» (المنهاج ص99).
ابن تيمية يفرق بين الفلاسفة فلا ينظمهم تحت حكم واحد ولا يضعهم في سلة محددة فكما أن ثمة ما يُدان في هذا الفكر فثمة ما هو غير محظور الركون إليه، وكما أن ثمة تباين منهجي تارة بين سدنة الفلسفة فثمة تقاطع على مستوى من المستويات تارة أخرى ولذلك يقرر أن: «كل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريق في الاستدلال يخالف طريقه الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريق الآخر، ويعتقد كل منهما أن الله لا يُعرف إلا بطريقته» (الفتاوى 2-22).
ويقرر أيضا: «أن الفلاسفة ليسوا أمة واحدة لها مقالة في العلم الإلهي والطبيعي وغيرهما، بل هم أصناف متفرقون، وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافاً مضاعفة» (الرد على المنطقيين 2-80) وفي (ص82). يقرر أن «اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد (وأنهم) طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات».
وإذا كان ابن تيمية يقف على خط الممانعة ولا يفتأ يعمل على بلورة تداعي الرؤية الفلسفية في مطالب الإلهيات لأنهم في منظوره: «من أجهل الخلق برب العالمين... وأما ماجاءت به الأنبياء فلا يعرفه هؤلاء البتة، وليسوا قريبين منه... فهذه العقليات الدينية الشرعية الإلهية هي التي لم يشمّوا رائحتها، ولا في علومهم ما يدل عليها» (الرد على المنطقيين 2-131) كما أنه يؤكد خطأ «ظنهم أن ما عندهم في الإلهيات علم، وأكثره جهل» (ص 188) إذا كان ابن تيمية يتحدث بتلك النبرة اللاذعة في هذاالسياق فإنه في المقابل لا يلغي ما يصدرعن الفلاسفة من مفردات موضوعية؛ بل يحفظ لهم ما يتوفرون عليه من تميز.
كما يؤكد ذلك في المقبوس التالي: «إن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل وفيه خطأ كثير بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير, وصوابه فيه كثير» (الدرء 10-143).
كما يقرر أن: «ما يذكرونه من العلوم النظرية فالصواب فيه منفعته في الدنيا وأما العلم الإلهي فليس عندهم ما تحصل به النجاة والسعادة» (نقض المنطق 78).
إن الطرح الفلسفي المتصل بعلم ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى وهو العلم الكلي فإنه طرح يتمحور حول الفرضيات الذهنية لا العلم بالحقائق الخارجية ومن هنا يقرر أن: «الحق فيه من المسائل نزر قليل» (نقض المنطق167).
وأيضاً تأكيده على أن أرسطو وأتباعه إذا ذكروا ما يتعلق بالدين فإنه: «يعرض على القرآن وإن كان ما يذكرونه مجملاً فيه الحق فإن الحق يقبل والباطل يرد». (الفتاوى 4-115).
وابن تيمية لا يتردد إطلاقاً في الإشارة إلى ما يصح منهم في جانب الإلهيات كما في وصفه لكتاب (المعتبر في الحكمة) لأبي البركات البغدادي حيث حفظ له إثباته لعلم الرب بالجزئيات وإثباته للصفات وأكد أنه أكثر تألقاً في سماء الفكرمن سواه.
أيضاً ابن تيمية يحتكم إلى نظرة تفاضلية فهو يفاضل بين الأطروحات الفلسفية ويمايز بين مساراتها ولا يَنظمها في خيط واحد ولذا فهو يقرر أن أطروحة أرسطو وطائفته أعلى درجة في الصوابية من سواه من الفلاسفة, وأن الفلاسفة (المنتسبين) إلى الإسلام كابن سينا مثلاً قد كانت لهم بعض المفردات المقبولة في الفلسفة, وأن أرباب الكلام أدنى إلى الموضوعية منهم.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة