تَوطِئَة:
تستوقفني في كثيرٍ من الأحيان أبياتٌ من (الشعر العربي)، أشعر من الوهلة الأولى أنها ليست (عادية)، أي أنها ليست كما تبدو عليه (للمتلقي) الذي لا يطيل (التأمل) في (ألفاظها)، ويُحاول أن يسبر (أغوار) (معانيها)، فيكتفي بِما تبادر إلى ذهنه من (القراءة الأولى)، ويُفوِّتُ على نفسه بسبب ذلك (أسراراً) و(نكتاً) و(جماليات)، سيُدهش حتماً حينما (تتكشَّف) له من وراء أستار تدبرها، وإطالة الوقوف أمام إيحاءاتها.
ومن تلك الأبيات التي كان القلم يُصِرُّ بين الحين والآخر على كشف شيءٍ من إبداعها الغزير وثرائها الدلالي العجيب بيتان في الهجاء الساخر اختلفت كتب الأدب في حقيقة صاحبهما، على أن أكثر المصنفين أوردهما دون عزو إلى شاعر معين، وهما قوله:
لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ إِبَرَاً يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ المنزِلِ
وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَعِيرُكَ إِبْرَةً لِيَخِيطَ قُدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!
وقبل الكشف عن روائع (المبالغة الساخرة) في هذين البيتين، والتحليق في (فضاءاتهما)، أرى أنه من الضروري رصد أبرز (الملاحظات) التي لفتت انتباهي أثناء تتبعي لهما في المصادر التي أوردتهما، من أهمها:
1- يورد بعض المؤلفين قبل هذين البيتين (قصة) شديدة الارتباط بهما، بل إنهم يرون أنَّ هذه (القصة) هي التي أوحت بهذين البيتين لِمن أنشدهما، وخلاصتها: أنه قيل لبعضهم: أما يكسوك مُحمَّد بن يَحيى؟ فقال: والله لو كان له بيتٌ مَملوءٌ إبراً، وجاء يعقوب -ومعه الأنبياء شفعاء، والملائكة ضُمناء- يستعير منه إبرةً؛ ليخيط به قميص يوسف، الذي قُدَّ من دُبُر، ما أعاره إياها، فكيف يكسوني؟
2- لَم يتوقف أحدٌ من المؤلفين -فيما وقفتُ عليه- عند هذين البيتين، (وقوفاً جاداً)، بل كان جلهم يوردهُما، دون أدنى (تعليق) أو (شرح)، كانوا فقط يشيرون إلى أن ناظمهما استفاد من المقولة السابقة في (القصة) آنفة الذكر، أو أن البيتين شاهدٌ على (المبالغة) في البخل، ولا زيادة على هذا، بيد أن (الألوسي) ذكر أن البيتين فيهما من (المبالغات) ما يزيد على (العشرة)، ولم يزد على هذا، وهي على كلِّ حال التفاتةٌ تستحق الإشادة.
3- اتفق (جَميع المؤلفين) على رواية (البيت الثاني) دون أي تغيير في (ألفاظه)، بينما كان (البيت الأول) مُعَرَّضاً لاختلاف (الروايات)، وقد اخترتُ من هذه الروايات الرواية الغالبة في أكثر الكتب التي أوردت البيتين، وهي الرواية التي (تتناسب) مع (سياق) النص، و(تُعمِّق) من (دلالاته)، و(تتعاضد) مع (المبالغات) الواردة في ثناياه.
والآن.. دعونا نُحلِّق معاً في (فضاءات) هذا النص بإيجاز، ونُحاول أن نكشف عن شيء من (أسرار تَميُّزه)، و(ثراء دلالاته).
إِبْحَار:
لا شك أنَّ أيَّ (قارئ) لهذا (النص الساخر) سيفهم فوراً أن الشاعر يصف شخصاً سَمَّاه (ابن يوسف) ب(البخل الشديد)، وقد (بالغ) في وصفه بذلك إلى الدرجة التي يَجعله فيها مُمتنعاً عن (إعارة إبرة)، رغم أنه يَمتلك الكثير منها، وهي (الرؤية الأولية) و(النظرة البدائية)، التي تقرأ (النص) قراءةً (عادية) و(سطحية)، ولا تترك مَجالاً (للعقل) أن (يتأمل) في (جزئياته)، و(يتعمَّق) في (إيحاءاته)؛ لذا فإني أرى أنَّ هذه (النظرةَ) إلى (النص) نظرةٌ (قاصرةٌ) و(ظالِمةٌ)؛ إذ إنها غَضَّت الطرف عن (دلالاتٍ) متعددة، من شأنِها أن (ترتقي) ب(الفكرة الرئيسة) إلى أعلى مِمَّا هي عليه في الظاهر.
ولكي لا يكون الحديث هنا مُجرَّد (تنظير) دون (تطبيق)، أو (ادَّعاءً) دون (تدليل) و(تدعيم) و(برهان)، دعونا (نقترب) من (النص) أكثر، ونُحاول معاً أن (نُجلِّي) شيئاً من تفاصيل هذه (الكوميديا الساخرة)، و(نتلمَّس) بعضاً من (مبالغاتِها) المدهشة، الأمر الذي لن يتمَّ سوى عن طريق الوقوف عند كل (لفظة) في النص.
(المشهد-البيت) الأول:
قِمَّةُ الاكتفاء
أولاً- (لو أنَّ قصرك): كان يُمكن للشاعر أن يتجاوز هذه اللفظة (قصرك) إلى غيرها من الألفاظ التي يُمكن أن تَحلَّ مَحلَّها، ويتوهَّم (القارئ) أنَّها تؤدي (الغرض) نفسه، مع عدم إخلالِها بالوزن؛ كلفظة (بيتك)، أو (دارك)، لكنه آثر هذه اللفظة دون سواها ليُحقِّق بذلك غرضين، لن يتوافرا مع غيرها من الألفاظ؛ هما:
أ- أنَّ المقام مقام وصف ب(البخل الشديد)، ولو كان هذا (البخيل) فقيراً، أو متوسط الحال، لَهانَ الأمر قليلاً، مع ما فيه من الشناعة والقبح، ولربَّما انتفت اللائمة عنه لو كان شديد الفقر، لا يَجد قوت يومه، فكيف الحال وهذا (البخيل) المقتِّر (غنيٌّ)، مُكتفٍ، يسكن قصراً شامِخَاً؟
ب- لا ريب أن (القصر) يتميز عن بقيَّة الدور العادية، والبيوت التي يسكنها الناس، ب(ضخامته)، و(كِبَرِهِ)، و(اتساع مساحاته)، ولا شكَّ حينها أنَّ (الإبر) ستكون (أكثر) بكثير في هذا (القصر) المترامي الأطراف، مِمَّا لو كانت في مكانٍ آخر، (أصغر) مساحةً من قصر (ابن يوسف).
ثانياً- (يا ابن يوسف): (النصُّ) على (اسم المهجو) في البيت، وبِهذه الطريقة التي (ناداه) فيها، و(نسبه إلى أبيه)، يُحقِّق له (أغراضاً) عِدَّة، لا يُمكن أَن توجد، فيما لو عَمِدَ إلى طريقة أخرى:
أ- (النصُّ) على مَا يُعرف به صراحةً في وقته، وذلك كي (تلتصق) به هذه (الصفة القبيحة)، في كل (زمان) و(مكان)، وتبقى (مُلازمةً) له، متى ما أُنشدت هذه (الأبيات).
ب- ثم إنَّ عدم (نصِّ) الشاعر على (اسم المهجو) في الأبيات -كما في كثير من أبيات (الهجاء) التي تَمرُّ علينا- قد يؤدِّي إلى (نسيان) مَن قيلت فيه، أو على الأقل إلى (اختلاف الروايات) حول (الشخص المقصود) بِهذا الهجاء، بيد أنَّ (النصَّ) عليه في الأبيات، لا يترك مَجَالاً لأيًّ من هذه الاحتمالات.
ج- (النصُّ) على المهجو عن طريق نسبته إلى اسم أبيه مقصودٌ مُتعمَّد، وسنعرف السرَّ في تَعمُّد الشاعر (التصريح) باسم أبيه حينما نتحدَّث عن البيت الثاني، حيث سيدخل (أبوه) في هذا (المشهد) على أحد (التأويلين) الذي سنكشف عنهما هناك.
د- ومِمَّا زاد من (تَميُّز) هذا التركيب، (توجيه) الخطاب مباشرةً إلى (المهجو)، فقد أَلِفَنَا أبيات (الهجاء) في الغالب يتحدَّث فيها الشاعر عن (ضحيته) بأسلوب (الغائب)، ويُخبِر عنه بِهذا (الهجاء)، وهو (مُتوارٍ) عن المشهد، أما في نَصِّنا هذا ف(الضحية-ابن يوسف) حاضرٌ موجودٌ مُستحضَرٌ في ذهن (المتلقي)، الذي يرى هذا (المشهد الساخر) بِجميع (أبطاله).
ثالثاً- (مُمتَلٍ): وهي (اسمُ فاعل) من الفعل (امتلأ)، بِمعنى بلغ (الغاية) و(النهاية)، والضمير المستتر فيها يعود على ذلك (القصر) الذي نسبه الشاعر إلى (المهجو-ابن يوسف)، وإيثار هذه (اللفظة) بِهذه (الصيغة) له أسرارٌ أستطيع أن أُجلِّي بعضاً منها من خلال ما يلي:
أ- نلاحظ بدايةً أن هذه اللفظة دلَّت (صراحةً) على أنَّ هذا القصر قد بلغ الغاية والنهاية في (الامتلاء)، حتى لَم يَعُد يُوجَد فيه جُزءٌ خالٍ.
ب- إيثار صيغة (اسم الفاعل) تُحقق للشاعر أمرين: فعلى (المستوى الدلالي) يُدرك (القارئ) أن (اسم الفاعل) يتميز عن الفعل (يَمتلئ) ب(الثبوت) و(الدوام)، بينما (الفعل) يدل على (التجدد) و(الحدوث)، والشاعر لا يريد أنَّ هذا (القصر) يَمتلئ ثم يفرغ ثم يَمتلئ، لأنه بِهذا التعبير سيأتي وقتٌ يكون (القصر) فيه فارغاً، وهذا غير مقصود، بل هو مِمَّا يُضعف (المبالغة) في النص، وإنَّما يريد أنَّ هذا (القصر) على هذه الحالة من (الامتلاء) دائماً، في كل وقت، وهذا ما يُحقَّقه التعبير ب(اسم الفاعل)، وما يقصده الشاعر بالطبع.
ج- الأمر الآخر نلحظه على (المستوى الإيقاعي)، فهذه (اللفظة) -على هذه (الصيغة) وبِهذا الموقع (نِهاية الشطر الأول)- تُحقِّق للشاعر تناسباً (صوتياً) رائعاً، ونغماً (إيقاعيا) متميزاً، يتَّسق مع نِهاية البيت، خصوصاً عند الوقوف عليها بالكسر، وهو (تناغمٌ) أعطى (النص) (جَمالاً شكلياً) تآزر مع (جَماله الدلالي).
Omar1401@gmail.com
الرياض