لا أدري لماذا أتسربل في حزني كلما دفعني شيء من الفرح لتنفرج أساريري، هناك سر في صدري لا أقوى على فك رموز سيطرته على مشاعري، ولا أعرف ما هو، هناك شيء يقتنص لحظات الرضا ليغرس فيها شوكة في الحلق، دون أن يدعني أفهم شيئاً مما يحصل في أعماقي السحيقة.
أكاد أجزم أن البرد القارص في الخارج لا يقل قسوة عن البرد المتشعب في أنحاء منزلي، ولو أنهما نوعان مختلفان من البرد، ففي الخارج يمتد بساط الثلج ماداًً بياضه على كامل الأفق الذي يطاله النظر، وفي البيت ثمة صقيع تبان عليه ملامح الوحدة جيداً يمتد في أرجاء المنزل البسيط، لا توجد حركة إذا ما استثنينا بندول الساعة الرتيب، وألسنة النار المتراقصة في الموقد، أدقق فيها جيداً، فأرى فيها ملامح أناس كانوا هنا يوماً، أشخاص ملأوا الدار صخباً وحياة، ثم تركوني ومضوا، وكأنني تعثرت بقدري ذات خيبة فكان أن لازمني الهجر، في البداية هجرني أبي ومضى ليعيش حياته كما يحلو له وتركني وأمي لنتآكل في الصقيع، ثم هجرني زوجي ومضى وترك سكيناً من نار اخترقت فؤادي ومزقته تماماً...تأججت نارها في داخلي كل يوم وأنا أسأل نفسي لماذا؟ ما هو الخطأ الذي ارتكبته ليتركني وطفلتي ويذهب دونما رجعة؟، ثم كبرت صوفيا لتهجرني هي الأخرى عندما التقت بفارس أحلامها، لم تعد شقرائي الجميلة تذكر أن لها أمَّا طالما حنتْ عليها، وحرمتْ نفسها لأجلها، لم تعد تتذكرني إلا لماماً، وإن فعلت فلأن لديها حاجة ما عليّ أن أقضيها لها، ربما زارتني ثلاث مرات منذ تزوجت من سنتين إلى اليوم، في المرة الأولى كانت تعاني من ضائقة مالية، وأتت لتأخذ آخر قطعة ذهبية تبقت لي من هدايا أبيها كنت قد احتفظت بها لكي تغطي مصاريف جنازتي عند انقضاء أجلي، ثم أتت لتأخذ جهاز هاتف أثري كنت أزين به غرفة الجلوس، وفي المرة الثالثة، قضت عندي ثلاثة أيام ريثما ينتهي زوجها من تصليح الحمام، ثم اختفت، علمت أنها حملتْ، كم تمنيتُ أن ترفع سماعة الهاتف لتبشرني، أردت منها أن تتذكر أن حدثًا كهذا يعنيني كما يعنيها تماماً...بل ربما أكثر، لكنها لم تفعل، لم تكلف خاطرها بمكالمة تخبرني فيها بأنها حامل.
وعندما وضعت وليدها، اتصل بي زوجها ليبشرني بأنني أصبحت جدة، كان أكثر دفئاً منها، على الأقل أطال حديثه معي ودعاني لزيارتهم، وسألني عن حالي وإن كنت أحتاج إلى أي شيء ليقوم بعمله، لم تفعل هي هذا مرة، لم تسألني عن حالي إلا من قبيل المجاملة، لم تسألني مرة باهتمام، إنما كان سؤالا روتينيا تلقيه في وجهي قبل أن تخبرني بسبب مجيئها أو اتصالها، فأتلقفه وأنا أنوء بنزيف المشاعر الذي يكتسحني مرة واحدة كفيضان هائج.
ما زال المنظر خلف النافذة كما هو، الثلج الأبيض، السنديانة العجوز، البيت المقابل لنا، المتجر الذي بجانبه، كل شيء كما كان منذ عشرين سنة، لا شيء تغير سوى أنها غادرتني ذات خيبة.
اعتدت أن أناديها أميرة الثلج، ليس فقط لأنها شقراء الشعر بيضاء الوجه، لكن لأن لها قلباً ثلجياً تضمحل فيه المشاعر وتتلاشى، ولأن في عينيها شيئا من الصقيع، شيء كان يخيفني، كنت أشعر أنها تدفنني بذلك الصقيع كلما رنتْ إلي بعينيها الزرقاوين، كنت أعلم أن لها قلب أبيها وعينيه، لا شيء في الدنيا يهمهما إن لم يكن فيه مصلحة لهما، لم أعرف لها صديقة، لم تقترب من أحد في يوم ما، كانت صديقة نفسها، تحبها كما لم تحب أحداً ولن تحب.
تراها تغيرت بعد أن أصبحت أماً؟ هل سيغزو ذلك النبض -الذي كان ينغرس في رحمها - قلبها بالدفء؟ هل ستضع شخصاً ما قبلها على قائمة الأولويات؟
تعود بي ذاكرة الفقد إلى تلك الأيام التي كانت تملأ الدنيا ضجيجاً وبهجة، كان بوسعها أن تملأ الحياة صخباً، كان بوسعها أن تفرش ضحكتها على وجه الكون، ما أقسى أن أفقد تلك الضحكة الغافية على ملامح الكون.
تلك الذاكرة اللعينة تتقاذف صورها في وجهي كلما وقفت على النافذة لأرى ندف الثلج، والمشهد الذي لم يتغير منذ الأزل، ترانا كنا أسعد حالاً لو أننا خلقنا دون ذاكرة طويلة الأمد؟ ربما ...من يدري؟!
طرقات على الباب، لا بد أن أحدا أخطأ طريقه إلى بيت جيراني، حملت جسدي المتعب فوق ساقين لم يعودا يتحملان ثقل السنين، واتجهت نحو الباب بينما كانت الطرقات تتوالى بإصرار، لولا أنني أعرف عادتها جيداً لظننت أنها صوفيا ، فتلك الطرقات النزقة التي لا تطيق صبراً حتى ينفرج الباب هي إحدى عاداتها، لكنها لم تكن لتأتي دون أن تتصل بي، فتحت الباب لأجدها واقفة وراءه، تحمل صغيرها على يدها، تلفه بغطاء صوفي سميك، هتف قلبي فرحاً، وأمسكت الصغير بينما تولت هي إغلاق الباب بعد دخولها، يا الله ما أجمله، كم يشبهها!! يشبه أميرة الثلج، نفس العينين الزرقاوين الفاتنتين المسكونتين بالصقيع، يا إلهي ما أروع تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بامتداد أوردته وشرايينه في صغار أولاده، كان قد تجاوز الشهر الرابع من العمر، يدور بعينيه المدهوشتين في كل مكان، يستكشف هذا المكان الجديد، أكاد أجزم أنه أحس برائحة الدفء الذي انسكب في حنايا المكان بمجرد وصوله مع أمه، أكاد أجزم أنه عرف أن هنا قلب يحبه حتى قبل أن يراه.
لم يطل الصمت بيننا طويلا،ً فقد بادرت صوفيا إلى صب الهم دفعة واحدة في صدري، هذه المرة لم أفكر أن ألومها بيني وبين نفسي كما يحدث عادة، لقد كان الهم أكبر منها، كان عليها أن تقطع المسافة التي ما فكرت أن تقطعها يوماً، وتدمر جدار الصمت العالق بيننا لكي تسكب همها في صدري، هي تعلم تماماً أن هذا الصدر ملاذها الآمن، وتشعر أن همها يمزقني، وأنني أكثر الناس استعداداً لأن أرمي بنفسي في النار لأجلها.
أخبرتني أن الصغير مصاب بفشل كلوي مزمن، وأنه مهدد بالموت إن لم يخضع لعملية زراعة كلية، قالت إن كليتها لم تناسبه وإنهم أخبروها أن الجدة من طرف الأم غالباً ما تكون متطوعة مناسبة، لتطابق الخلايا، يا عيون جدتك، أتكون خلاياك مطابقة لخلايا هذه العجوز المهترئة؟ أتكون فعلاً امتدادا لهذا القلب الهرم؟
لم أفكر مرتين ولا حتى مرة واحدة، سألتها متى يتعين علي الذهاب إلى المشفى، أخبرتني أنه بإمكاني أن أذهب بعد انتهاء عطلة نهاية الأسبوع، وودعتني حاملة صغيرها ذا الجمال الآسر لكي تطمئن زوجها، رافقتها حتى الباب، لمحتها تركب سيارة حديثة حمراء، تلك السيارة التي كانت تحلم بها، المسكينة أنساها الهم معنى الفرح، حتى أنها لم تخبرني مزهوة عن سيارتها الجديدة.
كاد قلبي ينفطر حزناً على حفيدي الجميل، كلما خطر في بالي أي وجع يثقل كاهله الصغير، أي ألم ينوء بتحمله وحده بكليتيه المعطوبتين! ولم أنم تلك الليلة، كانت عيناه تجترحان وجعي ، تأخذاني داخل موجهما لأغرق في ذلك الهم الذي يطفو فوقهما.
رن الهاتف صباحاً، تراها صوفيا تتأكد من موعدنا بعد غد، رفعت سماعة الهاتف ليأتيني صوت نسائي مألوف بطريقة ضبابية، يموج بأنفاس مضطربة، لم أستطع أن أتعرف على ذلك الصوت جيداً، سألتني صاحبة الصوت عن صوفيا، بدأت أميز بصمات الصوت عندما هتفت بي: ألم تعرفيني؟ إنها أخته، أخت ذلك المهاجر الذي ترك العش وغادرني منذ خمسة عشر عاماً، أخبرتني وصوتها يزداد تقطعاً كلما انغرست فيه شهقات البكاء بأن أخاها توفي، ولم تنتظر سؤالي عندما أكملت:» لم تتحمل الكلية المتبقية عبء جسده وحدها بعد أن تبرع لحفيده بكليته فانهارت وانهار معها».
سألتها متى؟ متى خضع لعملية التبرع تلك أجابتني منذ أكثر من شهر، أغلقت السماعة وقد عاودتني تلك النظرة المغلفة بالصقيع من عينيها الزرقاوين، تراك اشتريت تلك السيارة الجديدة بكلية أبيك يا صوفيا؟؟