حين انتقلت للعمل في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، كان الدكتور أحمد الضبيب قد خرج من القسم إلى التقاعد، ولكن دلائل عديدة تعلن دوماً أن أحمد الضبيب مر من هنا. فالزملاء الذين تتلمذوا على يديه ثم زاملوه في القسم لا يكفون عن ذكره، وهم يذكرونه ليعلنوا الاعتزاز بأنفسهم من خلال صلة التتلمذ أو الزمالة له، ويذكرونه ليستشهدوا على نموذج الأكاديمي الجاد، وعلى الإداري الحكيم والفاعل، وعلى الإنسان الراقي بعقله وضميره وسلوكه، ويذكرونه ليستحضروا زمناً جميلاً! أو ليستمدوا عزيمة وقوة وشجاعة!
هذا الذِّكْر الذي يشعرني بالفخر بزملائي والشعور بودٍّ ما، يوحِّدني وجدانياً مع مشاعرهم، علامةٌ بارزة من العلامات التي تركها أبو عمرو هنا، وذكر الفتى -كما قال شوقي- عمر ثان، وهو في الحقيقة حضور إضافي لا يغيب بغياب صاحبه، ووجود لكينونة معنوية منفصلة عن الجسد الذي نبض بها والعقل الذي أضاءها. ولقد كنت أجد في هذا الذكر الجميل بعض ما يعوِّض أسفي إذ لم أكن أحدهم، ولكنه تعويض يملؤني بالخيال بقدر ما أستمع إليهم وانفعل بهم، فأجد في ذلك كفاية الحُلم ومِلْءَ التطلع الذي تأسى على حياتك حين تخلو منه!
ولم يكن ذكر الضبيب من تلاميذه وزملائه هو كل ما وجدته منه في القسم، فأعمال الضبيب وتَرِكتُه في القسم ماركة مسجلة باسمه، وتأسيسه لمشروعات علمية وثقافية نوعية دلالة واضحة على بصمته التي تحمل جينات الريادة وعقلية الكبار. ومن أولها جمعية اللهجات والتراث الشعبي عام 1386هـ-1966م، وقد بدأتْ نشاطها بجمع الفلكلور الشعبي والتراث الشفهي السعودي وإقامة المهرجانات الشعبية والندوات الفكرية المتصلة بها، و بعد أن ابتعد عنها الضبيب توقفت عن العمل لمدة خمسة وعشرين عاماً، ثم عادت بمبادرة رائعة من تلميذه الصديق والزميل الدكتور فالح العجمي.
كما أسس الدكتور أحمد الضبيب عام 1387هـ-1967م متحفاً للتراث الشعبي بكلية الآداب، يتولى جمع أشياء ونماذج عينية ممثلة لمختلف مظاهر الحياة في المجتمع. وكان أبو عمرو يجمع بنفسه وبمعونة زملائه من الأكاديميين الرواد تلك الأدوات والأواني والملابس القديمة، وقد ذكر الدكتور منصور الحازمي مرةً أنهم كانوا يذهبون مع الدكتور الضبيب إلى الحراج، حراج بن قاسم، في الرياض، يشترون الأشياء القديمة، ثم ينظفها أبو عمرو بمعرفته ويضعها في المتحف. ويشهد الدكتور الحازمي في هذا الصدد أن معظم ما يحويه هذا المتحف هو من تجميع أبي عمرو وتصنيفه وتأسيسه، وهو الآن من ممتلكات كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود.
والجمعية والمتحف اللذان أنشأهما يؤشران على عقلية علمية وثقافية من نوع مفارق للجمود وذات حس عميق الانتماء. فالتراث الشعبي قيمة إنسانية، تحكي هوية المكان وخصوصيته الثقافية، وهو دلالة مدنية تجسد الفعل الاجتماعي وتحكي وجدانه الجمعي الذي تذهب جذور تكوينه في تربة الماضي البعيد. وما أحرانا بالعناية بتراثنا الشفهي والشعبي خصوصاً ونحن نستجمع طاقة الحلم فينا باتجاه نهوض حضاري خلاق، وهذا يستلزم فيما يستلزم وعياً بذاتيتنا التي لا نجدها -كما هو حال كل الشعوب- في السيارة والهاتف والكومبيوتر والمكيِّف والطائرة... إلخ.
وأحسب أننا هكذا نلمس لدى الدكتور الضبيب وعي المسؤولية وحسها الاجتماعي والثقافي الذي يحيل المرء إلى جَذْوة تجاوز بإشعاعها أناها إلى من حولها. وقد كان الدكتور حقاً كفء المسؤولية في الثقافة مثلما كان كفؤها في الإدارة، وسيرته ملحمة متصلة من المناصب والمسؤوليات تبدأ من رئاسة قسم اللغة العربية بالجامعة، وعمادة شؤون المكتبات، ووكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، ثم إدارة الجامعة، وصولاً إلى أمانة جائزة الملك فيصل العالمية، وعضوية هيئتها، وبين هذه وتلك رئاسة أو عضوية عشرات اللجان والمجالس والمراكز والإدارات المختلفة.
وهي مسؤولية لا تفارقها الدقة والضبط والإحكام، وأتذكر في هذا الصدد دخول أحد طلابي علي في مكتبي، وهو الدكتور ظافر الكناني، ليهديني نسخة من كتابه «النقد الانطباعي لدى النقاد السعوديين» الذي طبعه في مركز حمد الجاسر الثقافي، وهو في الأصل رسالته في الماجستير، وأخذت أتصفحه قائلاً له في لغة تشبه المزاح: أرجو أنك اهتممت بتصويب أخطاء النحو واللغة. فأجابني بأنه بذل جهده، ثم قال و فوق ذلك فلدى المركز محررون أبدوا عدداً من الملحوظات على الصياغة وصوبوا أخطاءً تَدِق أحياناً على بعض المتخصصين. ثم عرفتُ أن الدكتور الضبيب يرأس اللجنة العلمية في المركز، قلتُ: مَرْحَى للكفاءة المسؤولة أينما كانت!
كلما رأيت الدكتور الضبيب تداعى إلى ذهني قول الشاعر: «وأن أعزاء الرجال طيالها». إنه رفيع من غير تكبُّر، واثق في نفسه دونما غرور، وقور كما يليق وفي حدود ما ينبغي من دون زيادة. في عينيه تحفٌّز الجادين، لكن أديم وجهه يفيض بالوداعة وا لطيبة. ولطالما رأيته حاضراً معنا في مناسبات القسم المختلفة، وجلست أحياناً برفقته، وتذكرت به الكبار الذين تركوا الذاكرة معشبة بالحلم منذ زمن بعيد. ولَكُمْ أن تتخيلوا كم ينشط قسمنا، وتحف به غيمة سحرية لحضور الدكتور الضبيب وأمثاله ممن مروا بالقسم ذات زمن. إنهم وهج المعنى في قصيدة تدوزن ألحانها العصية على الكلمات!