أستاذنا العالم الجليل الدكتور الضبيب أستاذٌ عالمٌ بحرٌ من أي النواحي أتيته، فهو لغوي أديب محقق مترجم شاعر، وقل أن تجتمع هذه الصفات إلا في أمثاله.
رافقته في الحضرِ والسفرِ فعرفته عن قرب وكنت دائمًا المستفيدَ من علمه وخلقه؛ لا أذكر أنه أشكل عليَّ شيءٌ في قضية علمية وسألته عنها إلا وجدت الإجابة عنده. واليوم و»محلق الثقافية» مشكورًا يكرمه ببعض ما يستحق، أجد نفسي تواقة للمشاركة في تكريم هذا العالم الجليل رغم أنها مشاركة المُقِلِّ.
لقد رأيت أن أتوقف عند أول أعمال الدكتور الضبيب العلمية في حقل التحقيق، وهو « كتاب الأمثال « لأبي فيد السدوسي، وهو توقّف سيثبت دون شك مكانة الدكتور الضبيب في هذا الحقل، فالضبيب الطالب الذي يتخرّج لتوه من جامعة ليدز ويلتحق بآداب جامعة الرياض (الملك سعود حاليًا) يبادر مباشرة - وبثقة الأستاذ الجاد الذي قرر سلفًا ماذا يريد أن يفعل - ويبدأ بتحقيق « كتاب الأمثال « ويجعله باكورة إنتاجه في حياته العلمية.
إن المطلع على عمل الدكتور الضبيب في هذا الكتاب سَيُفَاجَأ بهذا العمل المتميّز الذي يوحي إليك أن محققه قد أمضى سنوات طوال في ممارسة التحقيق لكي يخرج الكتاب بهذا المستوى من الدقة والإتقان.
ولعل رحلةً مع عمل الدكتور الضبيب في هذا الكتاب توضح بعض المقصود.
يبدأ الباحث عمله بمقدمة قيِّمة عن تاريخ الأمثال العربية فيبين أنها مرت بمراحل ثلاث:
الأولى: كانت على أيدي الأخباريين والقصاص بدءًا بعبيد بن شرية الجرهمي الذي نسب إليه ابن النديم كتابًا بعنوان «كتاب الأمثال»، وتبعه بعد ذلك علاقة الكلابي الذي ألَّف كتابًا في الأمثال، ذكر ياقوت أنه يقع في خمسين ورقة.
أما المرحلة الثانية: فقد انتقل الاهتمام فيها بالأمثال من أيدي الأخباريين إلى أيدي اللغويين في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث ألَّف هؤلاء العلماء أكثر من عشرة كتب في الأمثال - قام الدكتور الضبيب برصدها - بدءًا بكتاب أبي عمرو يبن العلاء (ت 145هـ) وانتهاءً بكتاب ابن السكّيت (ت 243هـ).
ولعل أهمية كتاب أبي فيد (ت 198هـ) أنه -مع آخر- العملان الوحيدان اللذان وصلا إلينا من مؤلفات هذه المرحلة.
ثم تأتي المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الجمع والمزج بين ما جاء عند الأخباريين واللغويين، وتصنيفه في موسوعات عامة تميَّزت بالترتيب والتنسيق مثل كتاب «جمهرة الأمثال» للعسكري (ت 395هـ) و»مجمع الأمثال» للميداني (ت 518هـ) و»المستقصى» للزمخشري (ت 538هـ) .
وهذه الكتب - كما يقول الدكتور الضبيب- تعدُّ مجمعًا لأمثال العرب منذ الجاهلية حتى القرن السادس.
ثم ينتقل بعد هذا التاريخ للأمثال العربية إلى الحديث عن أبي فيد السدوسي وعن مكانته العلمية وشيوخه فيذكر أن مؤرجًا جاء من البادية وليست لديه معرفة بالقياس في العربية بل كانت معرفته له معرفة قريحةٍ وهذا مما يجعل الدارسين والمتخصصين يثقون بقراءة مؤرج للأمثال بخاصة، واللغة والتراث بعامة.
يضاف إلى ذلك تتلمذه على الخليل بن أحمد في البصرة حتى عُدَّ ثالث ثلاثة من تلاميذ الخليل بعد النضر بن شميل وسيبويه.
ولعل من المثير في مؤلف هذا الكتاب هو اسمه وكنيته «مؤرج، أبو فيد» ويبدو أن هذا الاسم وهذه الكنية لم يكونا مثيرين لقُرَّائِهِ فحسب، بل إن المؤلف نفسه -كما يقول الدكتور الضبيب- قد أحسَّ بما فيهما من غرابة دعته إلى تفسيرهما إذ قال: «اسْمِي مؤرج، والعرب تقول: أرجتُ بين القوم وأرشتُ: حرشتُ !
وأنا أبو فَيْدٍ، والفَيْدُ: ورد الزعفران» !
ولو توجهنا إلى تحقيق الدكتور الضبيب لنص الكتاب لوجدناه يعتني به عناية فائقة، فيذكر أولاً عناية الناسخ الشديدة، في ضبط النص، والتفريق بين المعجم والمهمل، والتأكيد على عدم اختلاط هذه الحروف بالحروف المشابهة لها ثم يتحدث عن طريقة رسم الحروف وعلامات المد والهمزات والحركات في المخطوط.
أما منهجه في الكتاب فلا شك أن الدكتور الضبيب قد آزر ما في الكتاب من دقة في الضبط بدقة في القراءة والتخريج لكل ما أورده أبو فيد من لغة أو شعر أو رجز أو قصص أو غير ذلك، معتمدًا -اعتماد الدقيق في التحقيق- على كتب اللغة وكتب الأمثال والنوادر والغريب، وكتب الأدب مطبوعها ومخطوطها وذكر الاختلاف بين ما في هذه المصادر وما أورده أبو فيد في الأمثال، كما عمد إلى الترجمة للأعلام المجهولة في الكتاب ناصًّا بثقة العالم عن عدم عثوره على بعض المجاهيل من الأعلام الواردة في الكتاب كمشرد الأقران السدوسي وأبي دوست.
إضافة إلى ذلك فقد عمد إلى الشرح اللغوي لجلاء غوامض اللغة في الكتاب ثم ختم الكتاب بتسعة فهارس: للمصادر والمراجع، والأمثال، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والشعر، واللغة، والأعلام، والأماكن، والمحتويات.
بكل هذه العناية خرج هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في مكانته وقدره مثال اً للتحقيق العلمي الرصين الذي يحتذي به طلاب التحقيق في المنهج والدقة والإحاطة والتمكن من إدراك كنه النص المحقق.
إن إخراج الدكتور الضبيب لهذا الكتاب في بداية حياته العلمية ليدل دلالة واضحة على تمكنه من اللغة والأدب منذ سنوات الطلب المبكر إذ لا يمكن أن يكون قد اكتسب كل هذه الثقافة من دراسته الجامعية أو العليا، كما أنها تدل دون شك على عشق واضح لتلك اللغة وآدابها صاحبه منذ شبابه ولازال.
لعل من الطريف أن ينشر هذا العمل العلمي الأول للدكتور الضبيب أول مرة في العدد الأول من مجلة كلية الآداب بجامعة الرياض!
رعى الله أستاذنا الجليل وأمد في عمره وزاده توفيقًا وصحة وسعادة.