إنكم لو رأيتم ما رأيته في ذلك المجلس الثقافي الجميل، الذي جمعني بثلة من المتعايشين -ذكوراً وإناثاً- رغم اختلاف مشاربهم في أحد مقاهي الدول العربية قبل سنة تقريباً.. إنكم لو رأيتم ذلك لتفجرت في أعماقكم -كما تفجرت في أعماقي- قنابل الأسئلة التي لا تنتهي حول أسباب عدم وجود مثل هذا التعايش الرائع في مجتمعنا.
يا الله.. ما أشسع الفرق وما أوسع البوْن بين مجتمعنا ومجتمعهم. يا الله؛ كم كانت أحاديثهم ماتعة ورائعة وحضارية وراقية بكل ما تحمله هذه الكلمات من دلائل. كان العدد كبيراً، والأطياف متعددة، والمذاهب مختلفة، والتوجهات متناقضة؛ ففيهم السني والشيعي والصوفي والدرزي، وبينهم بعض المسيحيين الذين يدينون وينتمون إلى عدد من الكنائس والطوائف المسيحية المختلفة عن بعضها في كثير من المعتقدات، ومنهم الربوبي واللاأدري وغيرهم من أصحاب المذاهب والمناهج الكثيرة المنتشرة في تلك الدولة؛ بالإضافة إلى اختلافهم الكبير عن بعضهم في الأعراق والأنساب والأشكال والألوان والأعمار والمناطق والمدن!
لم أسمع من أحدهم ما أسمعه وأقرأه باستمرار في مجتمعنا من الألفاظ الجارحة أو البذيئة أو المنحطة أو النابية أو المهينة التي تصدر من بعضنا ضدّ من يختلف معهم في رأي أو آراء أو منهج أو توجه أو مذهب أو غير ذلك.. لم أسمع شيئاً من هذا القبيل هناك، رغم أن الحوارات كانت طويلة ومتشعبة وحامية الوطيس ومتعددة المواضيع والمحاور.
كان الجميع يتفقون على شيء واحد هو: «الدين لله والحياة للجميع».
يحترمون بعضهم جداً، ولا يشتمون ولا يسيئون ولا يتجاوزون ولا يحرضون ولا يهددون مهما بلغت حدّة النقاش.. متى يصل الناس في بلادنا إلى مثل هذا التعايش الحضاري الذي يدعو للبهجة والفخر، ويحقق الحب والسلام والوئام بين البشر؟
ثمة إشكال عويص في موضوع التعايش في مجتمعنا، رغم أن عدد سكان المملكة تضاعف كثيراً في السنوات الأخيرة، وهذا ما يوجب على جميع العقلاء من مختلف التيارات والأطياف الإيمان بأهمية تحقيق التعايش؛ لأنه هو السبيل الوحيد القويم الأمثل، لبناء الوطن وتقدمه وازدهاره ونهضته بالشكل المنشود وبالصورة المرجوّة التي نطمح لها جميعاً في مختلف الميادين وعلى الأصعدة كافة.. يجب أن تهتم جميع مؤسسات الدولة بزيادة مستوى الوعي بأهمية هذا الموضوع بين أفراد المجتمع، بل يجب أن يهتم كلُّ فرد منا بهذه القضية، لعلنا نلحق ولو بآخر مقصورة في قطار التقدم والحضارة والإنتاج والإبداع والرقي.
لا يمكن لمجتمعنا أن يصل إلى ما وصلت إليه تلك المجتمعات الرائعة، إلا إذا مزقنا ثياب العصبيات بمختلف أشكالها البشعة وألوانها القبيحة، ولبسنا بدلاً عنها ثياب الحب والإخاء والتعايش والاحترام وقبول الآخر والانفتاح عليه. مزقوا -بكل ما أوتيتم من قوة- ثياب جميع العصبيات والتعصبات التي أتعبت أعصابنا، وفرقتنا ونشرت الاحتقان والكراهية والحقد والبغضاء بيننا، وألقت بمجتمعنا في ذيل قائمة المجتمعات للأسف الشديد.. مزقوا ثياب العصبية القبلية والمناطقية والفكرية والمذهبية والرياضية والعرقية والجنسية واللهجوية والطبقية… وغيرها من العصبيات. في بلادنا شيعة وسنة وإسماعيلية وصوفية وإباضية وأشاعرة وزيدية، وغيرهم من المواطنين والمقيمين الذين ينتمون إلى عدد من المذاهب الإسلامية التي تختلف عن بعضها في كثير من القناعات الروحانية العقائدية.. وفي بلادنا اليوم أيضاً مقيمون يدينون بأديان وملل ونحل كثيرة أخرى لا حصر لها.. بالإضافة إلى تعدد المذاهب الفقهية للمسلمين من سكان المملكة، ففينا الحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي والظاهري، وغيرهم من أتباع المذاهب الفقهية المتباينة. إذن، وبناء على الفقرة السابقة: هل يوجد من يستحق اللوم والرفض والتنبيه والنصح والتحذير والغضب والنفور والاشمئزاز في هذا العصر، أكثر من إنسانٍ ما زال يصرُّ على التمسك بمفاهيمه الرجعية المنغلقة البالية، التي تحثه على الإساءة إلى غيره، ونبذ المختلفين معه في القناعات، أو المختلفين عنه في النسب أو المنطقة أو المذهب أو الفكر أو اللون أو المستوى المادي أو غير ذلك من الاختلافات؟!
أمطري يا سحائب الحضارة والرقي والتعايش والإنسانية على قلبه الأسود، فقد طال جفاف أحاسيسه ومشاعره.. أمطري لعل أزهار تلك المفاهيم الجميلة تنبت في فؤاده، فيقتنع أن الاختلاف مع الآخرين لا يستلزم بالضرورة كرههم ومعاداتهم وإعلان الحرب الضروس عليهم.. أمطري لعله يفهم أن الواثق من نفسه وفكره ومنهجه يحترمُ الصوت الآخر ولا يخشى منه أبداً.. أمطري حتى يقتنع أن الاختلاف بين الناس في الآراء ووجهات النظر هو سنة الحياة، وأن من حق كلِّ إنسان أن يعيش بالطريقة التي يحبها ويختارها ويقتنع بها دون قيود أو شروط, إلا إذا أساء إلى غيره بأي طريقة، فهنا -وهنا فقط- يجب ردعه بقوة القانون وحده، لا بأي قوة أخرى. قلتها البارحة في مجلس ثقافي، وسأكررها في كل مكان وبأعلى صوت: العصبيات -بكل أنواعها- هي سلاح الدمار الشامل لأي مجتمع تنتشر فيه.. هي السلاح الذي يفتك بكل أحلام الوطن وطموحات المستنيرين من أبنائه.. لا يمكن لمجتمع أن ينافس في سباقات الحضارة والمجد الإنسانيين إلا إذا استطاع أفراده كسر بواتق الانغلاق والتطرف والإقصاء والوصاية.
وختاماً: قولوا آمين.. قولوها من أعماقكم بعد هذا الدعاء: يا رب خلِّصنا من جميع العصبيات التي استفحلت بيننا وانتشرت في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم.. يا ربِّ اجعلنا جميعاً إخواناً في الإنسانية، يحب بعضنا بعضاً، مهما اختلفنا في المذهب أو الفكر أو العرق أو المنطقة أو أي شيء.
- الرياض