لا أظنّ بلاداً عربية عاشت في عزلة ثقافية لعقود طويلة مثلما عاشت (ليبيا) في عصرنا الحديث، حتى أنني كنتُ كثيراً ما أتعمّد البحث عن صحف أو مجلات ليبية حين أكون خارج السعودية، ودائماً ما كنتُ أجدها أمامي مميزة بصورة زعيمها (الذي كان عميداً لزعماء العالم كله بالأقدمية!) وإذا ما تصفحتها فلا أجد غير المديح الغبيّ للسلطة والتمجيد الممل لزعامة الفرد المتحكم في كل شيء - حتى الثقافة واللغة..!
ليبيا التي ربما لم نكن نعرف من أدبائها سوى الروائي إبراهيم الكوني، والشاعر السوداني الذي ارتبط اسمه بليبيا منذ حصوله على الجنسية الليبية محمد الفيتوري (له تحية أخرى)، أقول: الآن، وبعد أن ثار الشعب الليبي وحطم الوثن وتمرد على العبودية لغير الله، وأثبت أنه شعب يريد الحياة (كما قال جارهم التونسيّ: إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر) فقد وجدت الثقافة الليبية نفسها أمام غربة متوارثة، لا أحد يعرفها سوى مثقفيها، وكان المطلوب أن تقوم ثورة ثقافية، أو على الأقل حركة ثقافية للخروج من تلك العزلة ومصافحة الثقافة العربية بشكل عمليّ..
لم يقم بتلك الحركة المطلوبة الفاعلة مثقفٌ، ولا حتى عصبة من المثقفين الليبيين، كما كان يُفترض، بل قامت بها صحفية وشاعرة ليبية شابة اسمها خلود الفلاح، لم أكن أقرأ اسمها إلا في بعض المواقع والمنتديات الثقافية الإلكترونية، وقد أعجبني وسيعجبكم أنها بادرت مبادرة ثقافية - على نطاق الأنثى المبدعة - تحسب لها وحدها، على رغم أنها لم تنفذ إلا تحت مظلة رسمية وبرعاية حكومية - كالعادة المتبعة في كل الدول العربية! - تقول خلود الفلاح في حديث لموقع ميدل إيست أونلاين، على هامش (ملتقى المبدعات العربيات في زمن الحرية) الذي أقيم في مدينة بنغازي الليبية في الفترة ما بين 26 - 29 من نوفمبر الماضي، وكانت هي رئيسة اللجنة التحضيرية للملتقى: (إن فكرة الملتقى كانت حلماً يراودني منذ زمن بعيد، أن تحتضن ليبيا نخبة المبدعات من كل أنحاء العالم والعالم العربي بوجه خاص) وقالت بتعبير واضح وبسيط: (نسعى لنظهر الوجه الجميل في ليبيا، نسعى لإزالة وجه الدمار والفوضى ونتفاءل بمستقبل أفضل، وتوضيح أن ليبيا ليست تصادماً وحروباً في الشوارع..) من أجل ذلك تقدمت الشاعرة بمقترحها لوزارة الثقافة في الحكومة الليبية الجديدة باسم جريدة (الرواية) وهي جريدة ثقافية شهرية تعنى بالشأن الروائي وتطبع في ليبيا بنسخ محدودة (500 نسخة فقط) غير أن رئيسة تحريرها خلود الفلاح تحمل طموحات قد تساهم في إخراج ليبيا من عزلتها الثقافية المزمنة، التي فُرضت عليها قسراً من الداخل والخارج؛ وهذا ما نتمناه ونتوقعه منها بعد نجاحها في إقامة أول ملتقى للمبدعات العربيات يعقد في ليبيا؛ فلها أجمل تحية تقدير وإعجاب، بانتظار ما سيبادر به المثقفون المتوارون في ليبيا باتجاه مصافحة زملائهم من العالم العربي، بعد أن أصبحت ليبيا مهيأة لتتمتع بحريتها وقرارها الثقافيّ وأبوابها المفتوحة على العالم بكل لغاته وآدابه وإبداعاته، فقد آن الأوان ألاّ تبقى ليبيا مجهولة وغامضة بالنسبة لنا..
* * *
تحية أخرى كبيرة، بحجم قارة إفريقيا كلها، أقدمها للشاعر العربي الإفريقي الكبير محمد الفيتوري، الذي ظهر مؤخراً في أمسية شعرية أحياها في فندق كلوب الياسمين بشاطئ الهرهورة جنوب مدينة الرباط في المغرب العربي، ليقول للناس أنه لا يزال حياً.. وقد أنشد بينهم عدداً من قصائده الفخمة، بحسب ما نقله الشاعر المغربي محمد العناز، فقد احتفى المثقفون المغربيون بالشاعر الفيتوري المقيم بينهم منذ سنوات، وطرحوا أمامه عدداً من دراساتهم النقدية حول تجربته الشعرية الكبيرة، بعدما انتهى الشاعر الكبير من قراءة مختارات من شعره وهو يجلس على كرسيّ متحرك يقاوم تعب السنين والترحال..
أقدّم للشاعر محمد الفيتوري تحيتي، وأحمد الله على سلامته وبقائه حياً شاهداً على ما جرى ويجري مما كان قد نادى به في قصائده الخالدة، فلقد قرأته بتأمل وحيادية وإنصاف، بعد أن رثيته في مقالة - هنا في الثقافية - بتاريخ 24 مايو 2012 إثرَ قراءتي لمقالة صديقه وزميل دراسته الشاعر والإعلامي المصري فاروق شوشة (في جريدة أخبار اليوم) التي أكد فيها وفاة الفيتوري بصمت، ونعاه بكلمات مؤثرة..!
ffnff69@hotmail.com
- الرياض