(أ)
التداوليّة طبيعة تغييريّة، وهي ضرورة إنسانيّة تمثّل في دورانها عدالة تداولية الفرص، لأنّها تعالج من عجز قيم (الحريّة السياسيّة والمساواة القانونيّة والعدالة النسبيّة) على الانتشار كحالات ينتفع بها شرائح عدّة من الشعب، لطالما انتفاع الجميع غير قابل للتنفيذ، ممّا يحثّ على التداول بين شرائح الشعب لإحداث تغيير يفضي دورانه إلى ازدياد عدد المنتفعين منه دورةً بعد أخرى؛ لأنّ قيمته الإيجابيّة منسوبة للمنتفعين من ورائه وليس للمنتفعين من حالة الجمود: (حالة بقاء الحال على ما هو عليه)؛ فالعلّة أنّ التغيير لا يضمن منفعة للجميع، فهناك دائماً متضرّر منه كما أنّ هناك منتفع به.
ولأنّ التغيير أكيد في الطبيعة والإنسان والدول فإنّ مسألة المواقيت تأخذ أهميتها وضرورتها، فكلّ أكيد له مواقيته بين معلومة ومتوقّعة -إن كان في الطبيعة وتقلّبات مواسمها والإنسان وتحوّلاته- بينما الحال في الدول تبقى مرهونة بمعدّل دوران التداول بين شرائح الشعب، بحيث إنّ التغيير يكون حاضراً طبيعيّاً بحضور معدّل دوران لا يتجاوز التغيير الطبيعي لأفراد الشعب ولا يسبّب مخاطر على الأفراد والكيان كلّه؛ فإذا مرّ جيل دون دوران تداوليّ فإنّ احتمالات حدوث تغيير اضطراري تزداد نظراً لتعطيل التغيير؛ هكذا كلّما تأخّرت التداوليّة التغييريّة لمنافع السياسة والاقتصاد فإنّ التغيير يكون معطّلاً وغائباً ممّا قد يستتبع حضوره بطرقٍ اضطراريّة لا يسلم منها الفرد ولا الدولة.
ولأنّ التغيير حتميّة أكيدة، فلا يجوز حملانه دائماً على معنى الجِدّة والخلق من عدم، بل يتعلّق بمفهوم تداوليّة العدالة بين الناس بمعدلٍ يفسح المزيد من الفرص الحياتيّة، فعدم إمكان تحقيق القيم الكبرى بالمطلق: (الحرية، المساواة، العدالة) لا يعني عدم العمل على تحقيق نسب عالية منها، وفق مبدأ التداوليّة التغييريّة والمفاهيم المضبوطة تشريعيّاً خدمة لإعادة توزيع الفرص بين شرائح الشعب كافّة في دورات عدّة لكلّ جيل، أو ما يمكن تسميته: العدالة بالتداول.
(ب)
المقصد من هذا المدخل هو التمكين من بناء مفهوم واقعي للتغيير السياسي والاجتماعيّ يعتمد على التداوليّة بإعادة توزيع الفرص والاحتمالات لتحقيق نسب عدالة أعلى من تثبيت وضع اجتماعيّ دون تغييره.
وهذا المفهوم يعتمد على خصائص عدّة تجب مراعاتها لزيادة وعي التعامل مع التغيير والإقرار به، منها: (أ) أنّ التغيير حدثٌ طبيعيٌّ وليس استثناء. (ب) ضرورة إدراك نسبيّة الانتفاع والإضرار من وراء التغيير (ج) أنّ تعطيل التغيير الطبيعيّ يؤدّي إلى مخاطر تغيير اضطراريّ يضرّ بحياة ومصالح الأفراد والكيان معاً.
فالتداول الديمقراطي للسلطة أو انتقالها طبيعيّاً بسبب الوفاة، أو أخذها بالقوّة من أطراف داخليّة في السلطة (انقلاب)، أو الإطاحة بالسلطة من قبل الجماهير (ثورة)، أو عبر تدخّل خارجي (احتلال)، أو عبر استقلال يزيل سلطة محتلّ؛ كلّها أشكال تغيير سياسي تختلف بين الطبيعيّ والاضطراريّ.
وهذه الوسائل يكون التغيير بعدها محتملاً، لطالما كان قبلها ممكناً، ولا نقصد تعارضاً بين حتميّة التغيير الأكيد وبين تصنيفه (محتملاً أو ممكناً)، لأنّ طبيعة التغيير الأكيدة فيما يخصّ الأشياء والإنسان والكيانات مرتبطة بمنحنيات الزمن والقدرة، ولأن الزمن لا يتوقّف وليس فيه (الآن) كان التأكيد على حتميّة التغيير عبر شريط الزمن؛ بينما تكون في نقاط هذا الشريط أحداثاً تعطّل التغيير أو تعجّله، ليتحوّل بعدها من: (ممكن إلى محتمل إلى واقع)؛ لكنّه لا يكون أبداً مستحيلاً.
(ج)
هكذا يمكن أن نضع تعاريف أوّلية لطرق التغيير: بحيث إنّ (التداوليّة المقنّنة): تداول طبيعيّ عبر آليّات ديمقراطيّة أو إصلاحات داخليّة تلتزم بالتداوليّة تشريعاً. و(التداوليّة التلقائيّة): هي تداول طبيعيّ بقوّة الضرورة، تحدث عبر الوفاة أو المرض. و(الانقلاب): هو تداول اضطراريّ-تصحيحيّ، يمثّل صراعاً على السلطة وطمعاً في القوّة والنفوذ باستغلال جمود النظام وظهور علامات الضعف عليه. و(الثورة): هي تداول اضطراريّ ناجم عن تحرّكات جماهيريّة تسحب السلطة الجامدة وتحرّك التغيير المعطّل. وأخيراً (الاحتلال/الاستقلال): وهي تداوليّة خارجيّة أو تداوليّة تحرّر من احتلال خارجيّ، وكلّ احتلال يعطّل التداول مآله إلى زوال.
لذلك فإنّ الواقع مؤهّل لاستيعاب التداول الطبيعي والتلقائيّ اللذين لا يعطّلان سيرورة التغيير وصيرورته على اعتبارهما جزءاً أصيلاً من الواقع، وليس حدثاً دخيلاً يحتاج إلى تأهيل، لاستيعاب متغيّراته الفجائيّة، بينما يُعدّ تعثّره في أيّ نظام سياسيّ استثناء دخيلاً على الواقع وقوّة التغيير فيه.
فالديمقراطيّة مثلاً: تسعى بمعدّل دوران تداولي إلى تحقيق نسَبٍ عالية من العدالة بالتداول، فهو انتقال طوعيّ للسلطة عبر آليّة الانتخاب الديمقراطيّ، وعبر برامج انتخابيّة لأجل الحصول على أصوات الناخبين-مالكي (الحقّ السياسيّ وحريّته) في اختيار سلطاتهم التشريعيّة والتنفيذيّة. ولا شكّ أنّ احتمال التغيير ليس حدثاً استثنائيّاً لدى هكذا أنظمة سياسيّة، ذلك أنّ تداول السلطة متوافق مع تداوليّة الأشياء والطبيعة وأعمار المواطنين، وهو ما يجعل السلطة متجدّدة غير ثابتة، فهي متغيّرة دائماً، وأساس البرامج الانتخابيّة أنّها مغايرة (للواقع-الآن) ومشرعة الاحتمالات على (المستقبل، ما بعد الانتخاب).
وأيّ نظام شموليّ يراعي ضرورة التغيير فإنّه يقوم بتغييرات وإصلاحات داخليّة لأجل إبعاد مخاطر حدوث التغيير الاضطراريّ، وقد تكون قيمة تلك الإصلاحات ذات تأثير لا يمكن تحقيقه بأيّ طرق أخرى؛ لذلك لا يُجدي الظنّ والتوهّم أنّ التغيير لا يكون إلاّ عبر وسائل الانقلاب والثورة، فما هي إلاّ وسائل اضطراريّة ناجمة عن تعطيل الوسائل الطبيعيّة التي يتحقّق فيها التغيير من الداخل ويعطي نتائج لا يمكن أن تتماثل مع التغييرات الاضطراريّة؛ والشواهد عديدة في التاريخ القديم والمعاصر على تغييرات وإصلاحات وقعت من الداخل وكان لها الأثر الكبير على بلادها والعالم: الأمبراطور قسطنطين الأوّل الذي نشر المسيحيّة في العالم، الأمين العام للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف الذي قاد تغييرات داخليّة أفضت إلى نهاية السوفيتات والحرب البارد ونظام القطبين، فريدريك دي كليرك رئيس جنوب أفريقيا الذي أشرف على إصلاحات سياسيّة أدّت إلى إنهاء الأبارتيد-العنصريّة سنة 1991.
(د)
تبيّن طرق التغيير بين الطبيعيّة والاضطراريّة أنّ اعتبار التغيير طبيعة في الثورة هو خطأ وخلط بين الغاية والوسيلة، وهو ما يمكن تحقّقه في وسائل عدّة. بل إنّ قراءة تلك الوسائل تظهر أنّ الثورة هي أسوأ طرق التغيير وأكثرها عنفاً وأعلاها كلفةً وإن كانت سلميّة، لكنها لا تأتي طواعيّة أو رغبة من جماهير الشعب أن تأخذ أصعب الطرق وأوعرها، لكنّ الوقوف بوجه قوّة التغيير وسدّ أبواب الوسائل التلقائيّة يفتح أبوابا اضطراريّة بين الثورة والانقلاب والاحتلال أيضاً.
إنّ أحداً من الجماهير المنتفضة لا يستطيع مثلاً أن يشرح بمنطقيّة علميّة ويحسم الأسباب التي أدّت إلى خروجه عن النظام والتجمهر لأجل الإطاحة بالنظام السياسي، فالمسألة لم تكن ولن تكون قراراً يتّخذه الشعب بميقات ووعي معلومَين، إنّما بلوغ حالة التغيير الشعبي حدّاً اضطراريّاً لا يمكن قياسه أو معرفة توقيته.
هكذا لا تقوم الثورة بموجب تحليل طرق التغيير ممّا يُفضي إلى اتّخاذ قرار جماهيريّ بخيار الثورة، إنّما هي حتميّة التغيير وليس حتميّة الثورة، هكذا يختار التغييرُ ويفرض الوسيلة التي لا يمكن للسلطة أن تصدّها مهما أعاقت دوران التداوليّة بين الناس، فالظنّ بأنّ الثورة هي التي تأتي بالتغيير لا يتساوى مع الرأي الذي يعتبر الثورة أداة يفرضها التغييرُ حين أوانه.
Yaser.hejazi@gmail.com
- جدّة