شيءٌ ما في داخلي لا يتآلف مع المدن التي ألتقيها أوّل مرة، أحمل وزر غربتي على ظهري مثل كيس رحّالة، غير أني لا أذخر به زادي، بل حجراً يطحن عظامي ويهشّم الذي بقي من ذاكرة غدت رثّة، ونجوماً تنطفئ كلما حاولت الاستعانة بها لإصلاح بوصلتي باتجاه مدن لاكتها بهائم لا شكل لها ولا لون، وتقتات على دمها الذي ينزف مثل علقة كبيرة!
في شوارع المدينة المزدحمة لم أرَ وجوهاً متجهّمة، كانت تلك الشوارع ملأى بالتفاصيل والحكايات والروائح والتاريخ، غير أنّي لم أعثر على الرابط الذي يجمعني بها، ما دمت ألفّ حولي حنيناً جامحاً مثل حزام زحل، وما دام يدركني كالليل «وإن خلت أن المنتأى عنه واسع»!
ربما تغمض عيني وأنام ملء جفوني ولكن ليس إلا عن شوارد لحظاتٍ تمرّ ولا تسعفني بنهاراتٍ ليس للدفلى فيها مكان، ولا أعني أن أكون مثل ذاك الذي ارتحل بحثاً عن أرضٍ لا يطولها الموت، رغم أني فعلت بصورة ما حين غادرت وطني هرباً من آلة القتل، وهناك لا تزهر الدفلى فقط.. بل تعلو نبتات الآس والغار على قبور بلا شواهد سوى القلوب!
يقال هنا: كل من يشرب من النيل لا بد أن يعود إلى مصر يوماً، وأرشف المرة تلو الأخرى فلا أرتوي! وأظل مصابة بظمأٍ لا يُشفى، ودوائي في مياه ذاك البعيد بفراتها - وأجاجها - الذي ما رشفت منه إلا عدت بحرقة صادٍ كما يقول شفيق معلوف..
تبدأ البنايات في مدننا أول عمرها بيضاء ناصعة، ثم تذوي عيونها شيئاً فشيئاً، وتتشح بالسواد حداداً أو استعداداً لحدادٍ مرتقب، كان هذا مما التقطه بصري - وربما بصيرتي - في مدنٍ مثل دمشق وحلب والقاهرة حديثاً! ربما هذا ما أشار إليه واسيني الأعرج بقوله: «شيء ما في المدن العربية يجعلها حزينة دوماً حتى وهي في أقصى حالات الفرح!».
الآن.. أبدأ شتائي بمعطف بلون الكرز، ولا يبدو أن الريح هنا تحب الكرز ولا معطفي! وما بين خيوط المعطف ظهرت اهتراءات كتلك التي تبهت فيها الروح.. ما بين النقش والنقش، خبأت مزق الوجد لأكون على أهبة الحلم بـ.. وطن!
- القاهرة