تأليف: جيمس كايير
كلمة المترجم:
(الطريق إلى الهند) كتاب ألفه أحد ضباط شركة (الهند الشرقية)، يتحدث فيه عن تلك الرحلة التي قام بها رَهط من موظفي تلك الشركة في ديسمبر عام 1778م، قادمين من أوروبا، وقاصدين جنوبي العراق، ومدينة (البصرة) بالذات، وهم في طريقهم إلى (الهند)، فبعد نزولهم في ميناء (اللاذقية) غادروه إلى (حلب) حيث استأجروا قافلة من الإبل، دخلت بهم بلاد (ما بين النهرين) من شمالها الغربي، محاذية في سيرها حوض نهر الفرات، متجهة مبهم نحو الجنوب!
ترجمت من هذا الكتاب فقط تلك الصفحات التي يتحدثُ فيها (رفاقُ القافلة) عن مدينة (البصرة) وما أصابتها وجارتيها (الزبيرَ) و(كويبدة) من مآسي ونكبات على أيدي المحتلين الإيرانيين، حيث يروون ما سمعوا وما شاهدوا حين وصولهم المنطقة، فيقولون:
«في الخامس عشر من ديسمبر، استأنفنا سفرنا الساعة السابعة صباحاً في صحراء قاحلة تتخللها كثبان الرمال، وفي الساعة التاسعة أقبل علينا رجل يمتطي جملاً وأخبرنا أنه من رجال الشيخ (سعدون) زعيم عرب (المنتفك)، كما علمنا منه أيضاً أن الفرس يحتلون (البصرة)، كما لاحظنا أيضاً عدداً من الرجال على ظهور الجمال يسيرون مسرعين جهة الشمال، إلا أنهم لم يقتربوا منا، وهم على ما يبدو من قبيلة عرب (المنتفك) أيضاً، ثم صار الجو غائماً، وهطلت زخات من المطر، وكانت الريح التي تهب من جهة الشمال الغربي باردة جداً، ثم واصلنا سيرنا نحو الجنوب الشرقي!
وفي صباح السادس عشر من الشهر آنف الذكر، استأنفنا سفرنا الساعة السابعة والنصف وكان الضباب كثيفاً، ورأينا البرق يومض بشدة من الجهة الشمالية الشرقية، وفي هذا الوقت افترقت عنا قافلة الخواجة (روبنز) التي رافقتنا طوال الطريق، واتجهت نحو «القُرين» - Graine- بينما تابعنا نحن سيرنا باتجاه جدة « كويبدة»، بقافلتنا المكونة من ستة عشر رجلاً وتسعة عشر جملاً!
لقد أعطى شيخُ قافلتنا كلَّ ما لدينا من ماء إلى قافلة الخواجة «روبنز» ظناً منه أننا على وشك الوصول إلى (كويبدة) ذات الماء الوفير، إلا أنه أخطأ تقدير المسافة إليها، حيث بقينا نواصل سيرنا بلا توقف حتى العاشرة ليلاً، وليس لدينا قطرة ماء، وشعر شيخ القافلة بالحرج وصار يعبرّ لنا عن أسفه لما فعل، مما جعلنا نُحجم عن لومه، حتى أنه أصر على أن يذهب بنفسه تلك الليلة الباردة كي يبحث لنا عن ماء نشربه، ولكننا منعناه!
واستأنفنا سفرنا فجر اليوم التالي، وعند الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وصلنا (كويبدة) التي كان الفرس قد اقتحموها وأحرقوها كما فعلوه بجارتها (الزبير) من قبل، وقد وجدنا فيها ماء وفيراً، وكان عذباً صافياً، وقد نكون شعرنا به كذلك من شدة ظمئنا وبقائنا قرابة أربع وعشرين ساعة دون أن نذوق شيئاً منه، ولحسن حظنا أن الشخص الذي كنا بعثناه برسالة منا إلى (البصرة) أمس التقيناه في (كويبدة)، وقد عاد وهو يحمل إلينا جوابها من السيد (لاتوشيه) Latouche ممثل الشركة فيها، ثم غادرنا (كويبدة) متجهين إلى (الزبير) التي تبعد عنها حوالي اثني عشر ميلاً، حيث وصلناها بعد ساعة واحدة تقريباً!
وفي مساء السابع عشر من ديسمبر، ونحن في (الزبير)، وجاءنا رسول ثان من السيد (لاتوشيه) يخبرنا أنه سوف يرسل إلينا صباح يوم غد عدداً من البغال مع عشرة رجال من الجنود الهنود للحماية لنقلنا إلى (البصرة)، حيث إن الطريق إليها غير آمنة بسبب حالة العداء القائمة بين العرب والفرس، كما أن حُراس قافلتنا سوف يغادروننا بعد أن وصلنا (الزبير) حسب الاتفاق!
لقد صفا الجو قليلاً عند الظهر، إلا أنه لم يكن كذلك ليلاً، وفي (الزبير) التي وصلناها، أقمنا خيامنا وسط خرائبها وبين بيوتها المهدمة، كما نشرنا في الطريق إلى (البصرة) من يراقب لنا الوضع فيه، لتحذيرنا مسبقاً من أية حركات قد تهددنا، أو هجوم يباغتنا، بسبب تفاقم حالة العداء بين العرب والفرس الذين ارتكبوا الفظائع بحق عرب (البصرة)، ومن بين تلك الفظائع، على سبيل المثال، هذه الحادثة الشنيعة التي نرويها فيما يلي:
عندما احتل الفرس (البصرة)، وبعد أن خربوها ونهبوها واستتب لهم الأمر فيها، جعلوا عليها حاكماً منهم، ووضعوا تحت تصرفه حماية من الجند قوامها سبعة آلاف وخمس مئة رجل!
كان هذا الحاكم قاسياً شريراً، كما كان أيضاً خبيثاً ماكراً وماهراً في إخفاء نواياه، إذ سرعان ما يبطشُ بضحاياه الذين خدعهم بأكاذيبه التي صدقوها، إذ ما إن مضى شهران على تعيينه حاكماً حتى ظهر على حقيقته، فبدأ ممارساته الوحشية!
كانت أولى ضحاياه ابنة طبيب من أهل (البصرة) سمع بجمالها الفائق، فأمر بإحضارها إليه عُنوة، وانتزاعها من بين أمها وأبيها، فأدخلَها بيته، وأبقاها عنده ثلاثة أيام، فلما شبع منها قذف بها إلى الطريق، وكان أبوها المسكين قد لازم باب بيت الطاغية ليأخذ ابنته المسكينة قبل أن يراها أحد فيفتضح أمرها، وقد كان ينوي قتلها، إلا أنه عدل عن ذلك حباً لها وعطفاً عليها، ثم قرر أن يستر أمرها بتزويجها، ولكونه ثرياً ومحترماً من الجميع، فقد استطاع أن يجد من يتزوجها، رغم أنه غير مساوٍ لها في المكانة الاجتماعية، ولكن أباها رضي بالقسمة والنصيب!.
وأقام والدها حفلاً صغيراً بالمناسبة، اقتصر على عدد محدود من المدعوين، يخيم عليهم ظلال من الحزن والكآبة، وقد حاول أبوها جَهدَ إمكانه إخفاء خبر الحفل، ولكن الطاغية سمع به رغم كل هذا الإخفاء والتستر، وكان يطمع بالمزيد من الفتاة، لذا فقد أمر بإحضارها، ولكن ليس وحدها هذه المرة، بل مع أبيها وخطيبها أيضاً، ولشد ما كانت دهشتها عندما أمر أحد حراسه بقطع رأسي والدها وخطيبها أمام عينيها، ثم أكره الفتاة على إحضار جَرْدلٍ من الماء، وأمرها بغسل يدي الحارس الملطختين بدم أبيها وخطيبها، ولم يكتف بفعلته المنكرة هذه، بل أقدم على عمل شنيع آخر، ليس مروعاً فحسب، بل من غير اللائق أن نصفه أو نرويه هنا كذلك!!
وضاق أهل (البصرة) ذرعاً بتصرفات هذا المجرم وممارساته، فغادرها منهم إلى البلدات المجاورة أناس كثيرون، وأقرب هذه البلدات إليهم (الزبير) و(كويبدة)، وحتى أهل هاتين البلدتين لم يسلموا من شره، ففي إحدى الليالي، وكان ثملاً، خرج من (البصرة) قاصداً (الزبير) على رأس قوة من الجند، فدخلها وأهلها نائمون، فأشعل فيها النار، وراح يقتل ويهدم ويخرب وينهب، حتى أنه قتل كل من حاول الهروب من ألسنة النيران، وما إن فرغ من فعلته هذه حتى غادر (الزبير) واتجه إلى (كويبدة) فأحدث فيها ما أحدثه في جارتها، ثم عاد إلى (البصرة) مزهوا ًومبتهجاً كما لو كان منتصراً على جيش عظيم!
وهكذا توالت المصائب، وتعاقبت النكبات على (البصرة) وشقيقتيها، فانتشرت فيها الأوبئة، وأنهكتها المجاعات، فمات منهم خلق كثير، حتى كادت تخلو من أهلها، ثم جاء الإيرانيون واحتلوا أرضهم وأذاقوهم مرارة الذل والهوان!
إلا أن الفرج جاءهم من بني عمومتهم أبناء قبيلة (المنتفك) البواسل الذين هبوا لنجدتهم بقيادة رئيس القبيلة الشيخ (ثامر) آل سعدون، حيث أعد جيشاً من بضعة عشر ألف مقاتل، وكوكبة من الفرسان كانت مهمتها المرابطة على مقربة من أسوار (البصرة) يقودها الشيخ (ثامر)، أما قوة الجيش الضاربة فتبقى في المكان الذي أريد له أن يكون الميدان الذي تدور فيه رحى المعركة، كامناً للفرس في واد عميق محاط من ثلاث جهات بعوائق طبيعية مغلقة، أما الجهة الوحيدة المفتوحة، وهي الجهة الغربية فقد رابط فيها عدد من المقاتلين وهم مختفون عن الأنظار، مهمتهم الحيلولة دون فرار الجند الفرس من خلالها سالمين!
وخرج الطاغية الفارسي على رأس جيش من (البصرة) لمقابلة جيش (المنتفك)، وصار يتقدم باتجاه قوة الفرسان العرب التي سرعان ما تراجعت، حسب الخطة المرسومة لتغريه بملاحقتها لاستدراجه إلى المكان الذي يكمن فيه الجيش العربي المتأهب للانقضاض عليه، وكان الشيخ (ثامر) في هذه الأثناء، يراقب الموقف عن كثب، وما إن رأى الفرس وهم يتجهون إلى المكان المصيدة المخطط له، حتى أعطى الشيخ (ثامر) الإشارة إلى فرسانه المنتظرين بفارغ الصبر، بالاستدارة للفرس ومهاجمتهم، ثم لجيشه الكامن بالخروج للاشتباك بهم، فأذهلت المفاجأة جيش الطاغية، وأدرك بعد فوات الأوان، أنه وقع في الفخ الذي أعد له باحكام، فدب الذعر في صفوفه، وصار جنوده يتفرقون ويفرون من فتحة المصيدة الوحيدة، وقد نزل فيهم جيش (المنتفك) قتلاً وذبحاً، فلم يخرج منهم سالماً إلا القليل!
ولكن مما يؤسف له أن الشيخ (ثامر) لم يحسم نتيجة المعركة تماماً إذ لم يتابع نصره على عدون ليلاحقه إلى (البصرة) ويطرده منها نهائياً، حيث كانت الفرصة مواتية لتطهيرها من الفرس، خصوصاً وقد غادرها الطاغية تاركاً وراءه حامية صغيرة ليس لها من القوة المادية أو المعنوية ما يجعلها قادرة على الصمود!
لقد علمنا بأخبار هذه المعركة من بعض أهل (الزبير) الذين كانوا يبحثون في حطام منازلهم عما قد يستطيعون الحصول عليه من متاع لهم تركوه فيها بعد فرارهم منها!
وبعد أن بلغنا نهاية الرحلة بوصولنا (الزبير) التي كنا اتفقنا، كتابة، مع شيخ القافلة بإيصالنا إليها، قمنا مساء هذا اليوم بدفع بقية أجور الرحلة إلى هذا الرجل الطيب الذي تصرف معنا طوال الطريق بمنتهى اللطف والاحترام، فكان بذلك محل تقديرنا وامتناننا!
كنا، في البداية، اتفقنا معه على نقلنا بقافلته من (حلب) إلى القرين Graine التي أبدلناها فيما بعد، إلى (الزبير) مقابل مبلغ قدره ألف وثلاثُ مئة دولار، ندفع منها مقدماً خمس مئة دولار، والباقي ندفعه له لدى وصولنا (الزبير)، وقد أحضرت له باقي المبلغ وهو ثمان مئة دولار، وطلبت منه أن يعده ليطمئن على تمامه قبل أن نفترق عنه إلى غير رجعة، فسألني إن كنت عددته، فلما أجبته بنعم، قال: هذا يكفي! ثم نادى أحد رجاله وناوله النقود ليضعها في الحافظة!
إن إنساناً كهذا الرجل يريك مثل هذه الثقة بك، لا يسعك إلا احترامه وتقديره، وإلا فما كان بمقدوره أن يفعل لو وجد المبلغ ناقصاً بعد مغادرتنا له، وهو يدرك أنه لن يستطيع أن يتبعنا إلى (البصرة)، بله أن يجدنا فيها!
وفي الثامن عشر من ديسمبر، وفي الساعة الحادية عشرة صباحاً، وصلتنا البغال التي وعد بإرسالها من (البصرة) ممثل الشركة فيها السيد لاتوشيه Latouche يقودها عشرة من الجنود الهنود المكلفين بحمايتنا!
وتأهبنا للمغادرة، وودعنا رجال القافلة العرب الطيبين بمشاعر الود والصداقة، كما ودعنا شيخ القافلة الأمين، وقلنا له: إنه يسعدنا أن نكون بصحبته مرة أخرى، إذا قدر لنا أن نقوم برحلة كهذه في المستقبل.
وغادرنا (الزبير) أخيراً إلى (البصرة)، استعداداً للانطلاق منها، بحراً، إلى الهند، مروراً بمسقط في (عمان) وبموانئ الساحل الإيراني في الخليج العربي!
- الرياض