تحدثنا في الحلقة الماضية وما قبلها عن النشاط الفكري وعلاقته بالنقد الأدبي كإرهاص لما جاء بعده من الدراسات النقدية الحديثة، وكانت تلك المؤلفات بداية للنقد بمعناه العام، كفر فكر إبداعي قام به مجموعة من التنويريين في الصحافة، وأصبح ركيزة انطلاقة في عالم النقد عند الجيل الأول في محيط الكلمة المعبرة؛ أما الجيل الثاني الذي ركز اهتمامه على الدراسات النقدية، بناء على معطيات النظرية النقدية الحديثة، ومنهم من درس في الجامعات الغربية، واطلع على النقد الأدبي، وخطاباته المتعددة المصادر، فقد جاءت دراساتهم متخطية المألوف التقليدي إلى البناء النقدي الحديث، وكان من أوائل هذه التجاوزات ما قام به عبد الجبار والفلالي ومحمد حسن عواد، - وقد أشرت إليهم فيما مضى- من جرأة في الطرح أثارت حفيظة من لم يطلع على ما ذكرته من نظريات قوبلت بالرفض، من دون ابداء الأسباب، إلا أنها لم تكن سائدة معروفة؛ حتى جاء عبد الله الغذامي بطرحه المغاير لما كان سائداً، في كتابه (الخطيئة والتكفير)، وكان الكتاب سيسجل سبقاً نقديا، لولا دخول المؤلف في قضية المرأة والرجل، وإخراج آدم من الجنة، بناء على الفكرة اليهودية والمسيحية في اقتفاء المثل القائل (إذا أردت السبب فتش عن المرأة) (38)، فتحول الكتاب عند البعض من كتاب نقد أدبي إلى كتاب نقد فكري عقدي، جعل البعض يقف منه موقف المفسر للعقيدة، لعل هذا الموقف في نفس الفترة التي قامت الحملات الشعواء ضد الغذامي قد جرت في طريقها باحثا آخر لم تقل أهمية بحثه النقدي عن بحث الغذامي السابق، حيث استطاع أن يطبق النظرية بحذر شديد جنبه الوقوع في الحلقة المفرغة التي وقع فيها كثير من الباحثين عندما يقدمون ثقافة النظرية الغربية في لباسها الأصلي على الثقافة العربية؛ فقد استطاع سعيد السريحي أن يقدم بحثا أصيلاً عن حركة اللغة في الشعر العربي، مطبقاً ما يصلح من النظرية الغربية على الشعر العربي، مستندا على المصادر العربية الأصيلة عند النقاد العرب في صياغة حديثة(39) لكن التيار المضاد استطاع أن يسحب الرسالة التي تقدم بها إلى كلية اللغة العربية في جامعة أم القرى، وللأسف فهي أجمل رسالة علمية قدمت في جامعاتنا إلى اليوم وجودتها تعود لتمكن كاتبها من زمام لغة النقد الأدبي الحديث.
وفي سياق هذا الجيل، يأتي مجموعة قليلة من النقاد الأكاديميين الذين تعددت مشاربهم الثقافية ومدارسهم النقدية الحديثة، فنجد عالي سرحان القرشي، في محاولاته النقدية يتناول تحولات النقد الأدبي من منظور لغوي في كتابه (تحولات النقد وحركية النص)، والذي يناقش فيه تحولات النقد من خلال حركة النص (40)، ونجد في الخطاب النقدي محاولات عابد خازندار مقارنة النص النقدي بالنص الأدبي من خلال الدراسات التي يجريها على اللغتين(العربية والفرنسية)، ويجد في مضمونها النص النقدي المقارب من حيث الفكرة، والفرق من حيث الثقافة(41)ويكاد منهجه يتوافق- إلى حد ما- مع منهج الدكتورة، مريم بغدادي، في دراساتها حول الأدب العربي ومجالسه في الأدب الفرنسي(42) وفي هذا المجال النقدي يعقد الدكتور عزت عبد المجيد خطاب دراسة مقارنة بين الشعر العربي القديم، أو ما يسمى بالمعلقات والشعر الإنجليزي من حيث محتوى القصيدة الإنسانية(43) لما يمكن أن يسمى الهم الإنساني، ولعل هذه الدراسات النقدية المتأثرة بالنقد العالمي قد هيئت في مضامينها جودة الدراسة في الخطاب النقدي المحلي والعربي، لكنها لم تؤثر التأثير المباشر في حركة الخطاب النقدي الخليجي والعربي، إلا عند بعض الدارسين المختصين للاستفادة من منهجها فقط، بعكس الدراسات التي أجريت على الأدب العربي، والمحلي منه على وجه الخصوص، أما من حيث المنهج الذي بحث فيه عن نشأة النقد الأدبي في المملكة(موجود في المصادر)، وأما من حيث الطرح على النصوص ونقد ما درس منها نقديا كما هو الحال عند عبد الله الحامد في كتابه (نقد على نقد) والذي ناقش فيه المقالات والأطروحات النقدية التي ظهرت في الدراسات الحديثة (44) وأثارت كثيراً من رد الفعل لما كشفه الحامد من أخطاء ارتكبها الباحثون، لجهل منهم بالثقافة، وقلة في محصولهم العلمي؛ أما مفهوم النقد، فقد تعرضت إليه سهام القحطاني في طرحها حول (العقل النقدي)، وهو طرح عمومي للعقل الناقد، سواء من الناحية الأدبية أو الاجتماعية (45)، وما ينطبق على هذا، لا بد أن ينطبق على الآخر، ولكن لكل منهما آليته الخاصة، وهي عمليات تمثيل وإنتاج، بين المنتج والمتلقي، وهنا تبرز عملية إنتاج المعرفة، وليس تقديم المعرفة.
ونود في ختام هذا البحث المختصر، والمضغوط في صفحات قليلة أن نقول: إن الخطاب النقدي في المملكة قد أخذ شهرة واسعة في العالم العربي، وبرزت أسماء قليل من النقاد في المحافل والمؤتمرات العلمية، وقد يكون السبب غياب المنافس، إذا استثني نا بلاد المغرب العربي، وهناك ميزة أخرى، وهي تعدد اتجاهات النقاد في المملكة، بين ناقد النص، ومفلسف النص، وراصد النص بعقل نقدي، ولكل منهجه في الدراسة النقدية، لكن المحصلة وجود خطاب مستقل في ذاته، مكمل لغيره.
الرياض