ممهِّدات المعركة
يرى كثيرٌ من المتابعين أنّ هذه المعركة قد اندلعت على هامش الأزمة الخليجية الثانية، (في النصف الثاني من عام1990م)، بسبب اختلافٍ فكري وقعَ بين الطرفين، حول الاستعانة بالدول الأجنبية، وربما بسبب مقالاتٍ عرض فيها القصيبي للتغيرات القادمة في المنطقة، مشيراً في إحداها إلى تغيرات فكرية، واجتماعية، ونفسية؛ الأمر الذي استفزّ مشايخَ الصحوة، وأشعرهم بأنّ هناك مخططاً ما، يتمّ الإعداد له في الخفاء، يتطلب تحركاً سريعاً لكشفه، أو إفشاله، ولقد ظهرتْ -وقتها- على السطح أحداثٌ محايثةٌ، قوّتْ هذا الشعورَ، وجعلت له مصداقيةً كبيرةً في الشارع، أهمُّها قيامُ مجموعة من السيدات بقيادة سياراتهنّ في الرياض مطلعَ نوفمبر عام1990م.
هذا ما يراه كثيرٌ من المتابعين، لكنّ القراءة المتأنية ترى شيئاً آخر، خصّصتُ له هذه الحلقة. يمكن أن نعيدَ المعركة برمّتها إلى توتر في العلاقة بين المشايخ ومجموعة من المثقفين الذين عادوا إلى المملكة قريباً من عام1970م، بعد أن تلقوا تعليمَهم العالي في الجامعات الأمريكية والأوروبية، في تخصصاتٍ تصفها أدبيّاتُ الصحوة بالدنيوية، كالسياسة، والإدارة، والقانون.
كان أولئك المبتعثون أكثرَ انفتاحاً من سابقيهم على الثقافة الغربية، وأكثر اقتناعاً بالرؤى الحداثية في إدارة الدولة والمجتمع، ولإيمان الدولة بأهمية هؤلاء في وضع الإستراتيجيات الكافية للتنمية؛ أسندت إليهم عدداً من الملفات المهمّة، فعيّنت بعضَهم في مناصب عليا، وأدخلت بعضَهم الآخر في التشكيل الوزاري الصادر عام 1976م، وهو التشكيل الذي كان يُطلق عليه في الشارع السعودي حكومة الدكاترة (انظر: القصيبي، حياة في الإدارة، العبيكان، ط6، ص124).
بهذا التعيين والاهتمام الحكومي صار هناك قطبان فكريان كبيران في الدولة، قطب محافظ يقوده العلماء والمشايخ، ويحظى بدعم كبير من الشارع، وقطب حداثي- منفتح يقوده المبتعثون الجدد، ويحظى بدعم كبير من الدولة.
اختلافُ القطبين في المنطلقات الفكرية، أفضى إلى كثير من الاختلاف بينهما في النظرة إلى الأمور، وفي تقديرها أيضاً، فنشأت على هوامش هذا الاختلاف احتكاكاتٌ متعدّدة، لكنها كانت جزئية، وكثيراً ما كانت تخفِّفها الثقةُ المتبادلةُ بين الدولة والعلماء.
أفضت تراكماتُ هذه الاحتكاكات، ومعالجتُها بالثقة وليس بالحسمِ الفكريّ الواعي، إلى توتّر في العلاقة بين الطرفين، وشحنٍ مستمر من الداخل، جعلَ الوضعَ مهيّأ للانفجار في أيّ وقت.
ويمكن أن نختصر العلاقة بين الطرفين في أنها ناتجُ تصوّر خاطئ من كلِّ طرف عن الآخر، ولا أنفي هنا أنّ جزءاً مما تصوّره كل طرفٍ عن الآخر كان صحيحاً، ولكنني أرى أنّ خلف هذا الجزء الصحيح من التصوّر أجزاء كثيرة لم تكن صحيحة، لعبت فيها المخيلة دوراً كبيراً، وأذكتها الأحداث، وروّج لها الأتباع، وباركها السياقان: المحلي والخارجي.
كانت الدولة قريبة من الطرفين بالقدر الكافي؛ لذلك كان تصوّرها دقيقاً عن كلٍّ منهما، فكانت تتعاملُ مع المشايخ على أساس نيّتهم الصادقة، وغيرتهم على الدين، وليس على أساس تصوّرهم الخاطئ عن المثقفين الجدد وعن التنمية، وفي المقابل كانت تفيد مما لدى المثقفين الجدد من معارف وعلوم، وتستثمر ما ينطوون عليه من حماسة صادقة للتنمية، دون أن تعتمدَ تصوّرهم الغالط عن المشايخ، ودون أنْ تتبنى أطروحاتهم حول الدين والدولة والمجتمع.
باستحضارنا هذه الجزئية يمكن أنْ نفهم خلفيات المعركة التي نشبت بين القصيبي ومشايخ الصحوة، فالقصيبي واحدٌ من جملة المبتعثين الجدد، عاد من البعثة مطلع عام1971م، وتولى في بداياته مناصبَ مهمّة، كان أهمّها تعيينه وزيراً للصناعة والكهرباء عام 1976م، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. ساد شعورٌ عام في الصفّ الإسلامي بأنّ القصيبي -رحمه الله- داعيةُ ضلال، ورمزٌ من رموز الفساد والإفساد في بلادنا، وتشكلت قناعة لدى بعض المشايخ بأنه يقود تجمّعاً ثقافياً سعودياً ينزع إلى التغريب، ويسعى إلى علمنة المجتمع، أو لبرته، وكانت هناك عوامل كثيرة تؤكد هذا الشعور لدى المشايخ، سأشير -طلباً للإيجاز- إلى خمسة منها:
العامل الأول: جرأة غازي في صناعة الصورة الشعرية، وهي جرأة لم يكن يقبلها المشايخ من أيّ شاعر، فكيف إذا كان هذا الشاعر سعودياً، وواحداً من المحسوبين على المقام الرسمي؟.. كان مشايخ الصحوة يستدلون بهذه الجرأة على فساد غازي، فبعد سنة أو سنتين فقط من عودته من بعثته قدّم بعضُهم إلى الملك فيصل -رحمه الله- اعتراضاً على ديوانه الثالث (معركة بلا راية: 1970م)، مطالبين بمنعه من التداول، ومعاقبة صاحبه. (حياة في الإدارة، ص73).
وبعيداً عن التقارير التي طلبها الملك عن هذا الديوان، واللجان التي شُكِّلت لمراجعته، فإنّ الحادثة تطرح نفسَها دليلاً على التباس مبكّر في العلاقة بين الطرفين، وإحساس من قبل المشايخ بأنهم أمام رجل يحتاج إلى تعرية.
ولقد وجد مشايخُ الصحوة -بعد اندلاع المعركة- في شعر القصيبي ما يكفي لتهييج الناس ضدّه، فاستشهد الشيخ سلمان العودة في محاضرته (الشريط الإسلامي ماله وماعليه)، بقول القصيبي: «نعم أحببتُ قبلك ألفَ مرة - وذقت الحبَّ نشوته ومُرّه - وطرتُ مع الشفاه إلى ربيعٍ - قطفتُ ورودَه وشربتُ خمرَه - وغصتُ مع النهودِ إلى لهيبٍ - نشقتُ دخانه، وأكلتُ جمرَه».
واستفتح هذه الأبيات بقوله:» أستغفر الله، وأتوب إليه، حين أجد نفسي مضطراً لأنْ أقرأ لكم مقاطعَ من ديوان (معركة بلا راية) لهذا الفقيه المفتي... ولكن هذا ما لابد منه؛ لإيضاح الأمور، وكشف الحقائق، وتجليتها لمن لا يدركها». وهو نفسه الموّال الذي عزف عليه الشيخ عائض القرني قصيدته في هجاء غازي، إذ جعله امتداداً للراحل نزار قباني -بما عُرف عن الأخير في السياق-، نقرأ له:
تفتي كأنك مالكٌ في طيبةٍ
عجباً وأنتَ نزارُ في باراتهِ
هـذي الدواوينُ التي أمليتَها
فيها زعافُ السمِّ من حيّاتهِ
العامل الثاني: شعبية غازي، فهو لم يكن من المثقفين القابعين في الظلّ، وإنما كان فاعلاً، وذا حضور إعلامي أيضاً، فقد نشر الكثيرَ من المقالات والقصائد وهو بعدُ في المرحلة الثانوية، وبعد عودته من البعثة، انتظم في كتابة مقالات نصف شهرية لصحيفة الرياض، وأعدّ برنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً باسم (أضواء على الأنباء)، يقول عنه القصيبي نفسه: «حقق لي هذا البرنامج من الشهرة خلال أسابيع مالم تحققه ثلاثة دواوين من الشعر في عشر سنوات» (السابق، ص67).. وكانَ إلى ما سبق مشرفاً على عدد من البرامج المثيرة للجدل (كإشرافه على أحد البرامج القانونية في معهد الإدارة)، وعضواً في لجان استشارية مهمّة.
يحدثنا غازي عن حضوره الإعلامي قبل عمله الوزاري، فيقول:» بدأ الأستاذ الجامعي يتحوّل إلى شخصية عامة، فبدأتُ أدفع ضريبة الشهرة، ظهر الكلام عن عاشق الأضواء، عاشق البروز، عاشق الظهور...» (السابق، ص71).
ثم اتسعت دائرة شعبية غازي بالنجاحات التي حققها في (وزارة الصناعة والكهرباء 1975م)، ثم في (وزارة الصحة: 1982م)، ليكون بكلِّ ما سبق شخصاً مؤثراً ومنتشراً.. لم يحظَ مثقفٌ من قبل بالشعبية التي حظي بها غازي، وهذا ما ضاعف من مخاوف المشايخ، فجعلهم مضطرين إلى متابعة كلّ ما يصدر عنه، وحمْلِهِ على محمل جادّ، ويكفي دليلاً على ذلك أنهم كانوا يصفونه في محاضراتهم بالأخطر، وبكبيرهم الذي علمهم السحر، وبفيلسوفهم الكبير، بل إنّ أحدهم أشار -في خطبته- إلى امتلاكِهِ ملفاتٍ ووثائقَ حولَ نشاطات غازي وتحرّكاته!. العامل الثالث: اهتمام القصيبي (في التسعينيات خاصة) بعدد من القضايا الدينية، والمسائل الشرعية، التي كانت -من قبله- ممنوعة إلا على العلماء والدعاة، فلقد نُشرتْ له مقالاتٌ، ولقاءاتٌ، في (المسلمون)، و(اليمامة)، و(الشرق الأوسط)، و(عكاظ)، عرض فيها آراءه حول بعض المسائل الشرعية، كالموسيقا، وقيادة المرأة للسيارة، وحد القذف، وشروط الاجتهاد...، وكان يختم مقالاته أو إجاباته بعرض رأيه في المسألة؛ الأمر الذي استفزّ المشايخ أيضاً، فدفع بعضَهم إلى السخرية منه، وبعضَهم الآخر إلى مواجهته، يقول الشيخ العودة في محاضرته المشار إليها آنفاً: «ماذا بقي لنا بارك الله فيك، وأصلحك الله؟ إذا وصلت إلى هذه القضية (يقصد تقنينَ حدِّ القذف) فماذا بقي لنا..؟».
العامل الرابع: تبني القصيبي عدداً من القضايا والبرامج التي يرفضها مشايخُ الصحوة، من مثل: برنامج المستشار القانوني في معهد الإدارة، الذي فهمه بعض المشايخ على أنه تطبيقٌ للقوانين الأجنبية (وضعية - غير الإسلامية)، ولقد عقد القصيبي اجتماعاً أو اجتماعين مع المعترضين؛ لإقناعهم باندراج البرنامج تحتَ مظلة الشريعة الإسلامية، وكان الاجتماع بين الطرفين يمضي هادئا وجميلاً، لكنّه لم يحقّق نتائجَ إيجابية؛ بسبب انعدام الثقة، وتوتّر العلاقة.
العامل الخامس: وهو العامل الأكبر، صدور بيان من سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- نهاية عام 1979م، على خلفية تصريح نقلته مجلة (نيوزويك) على لسان القصيبي.. ورغم انفراج العلاقة بين الراحلين الكريمين، وتبادلهما -من بعد البيان- الزيارةَ والمشورةَ (والإشادةَ أيضاً)، واشتراكَهما في أكثر من عمل خيري فيما بين عاميّ 1982و1984م، فإنّ من مشايخ الصحوة مَنْ ظلّ محتفظاً ببيان الشيخ، يدفع به إلى الشارع بوصفه دليلاً (مستمراً) على فساد الرجل، وفساد عقيدته.
هذه خمسة عوامل جعلت صورة القصيبي في أعين مشايخ الصحوة وأتباعهم محاطة بالكثير من الشكوك والاستفهامات، وربما جعلتهم مستعدين لمواجهته في اللحظة المناسبة.
في المقابل كانت هناك عوامل كثيرة هيأت القصيبي لهذه المواجهة، أهمّها: أنه ولد وعاش في أجواء فردانية صرفة، ونشأ وترعرع مستقلاً بذاته، فلما عاد من بعثته وجد في الخطاب الذي يقدّمه مشايخ الصحوة ما يتعارض مع فردانيته؛ لذلك كان مستعداً لمواجهته أو مواجهتهم قبل أن يحين وقتُ المواجهة، دفاعاً -على الأقلّ- عمّا يراه حقاً مشروعاً له كحرية التفكير، وحرية التعبير.
لم ينظر القصيبي إلى خطاب المشايخ على أنه فهمٌ مخلصٌ للدين، وإنما نظر إليه بصفته خطاباً وصولياً، يسعى من ورائه المشايخ إلى فرض رؤيتهم على الجميع.
أضيف إلى ما سبق أن القصيبي درس في القاهرة وقت اشتعال أرضها بالأحزاب والوعود والأمنيات العِذَاب، وشهد من مكان قريب المواجهة بين الإسلاميين والسلطة، وقرأ -فيما بعد- كثيراً مما كُتب عن الإخوان المسلمين، والثورة الإيرانية، والأصوليين، وبدا لي أنّ هذه القراءات شكلت لديه تخوفاً من أيِّ حراك إسلامي، يأخذ طابعاً سياسياً، ومن المتعيّن أنه كان يسقط مقروءَه على الواقع، وربما كان لمخيّلته ولحساباته الخاصة دورٌ في توسيع توقعّاته.
ثمة نقطة ثالثة هنا، هي شعور القصيبي من البدء بأنّ هناك حملات تشويه كبيرة تستهدفه بشكلٍ سري وعلني، وكان يرى بعينيه الوفودَ التي تقدّم للملك الاعتراضَ تلو الآخر على دواوينه، وبرامجه، ومقالاته، ومن تلك اللحظة يمكن القول بأنّ القصيبي كان ينتظر اللحظة الحقيقية لمواجهة من يدير هذه الحمَلات.
وإذن فكلا الطرفين عاش في جوّاً غير صحي، وأضحى مهيّأ لدخول معركة لا تبقي ولا تذر، وسنرى لاحقاً كيف استعمل الطرفان أسلحةً غير مشروعة عندما حانت ساعة المواجهة. ............ (يتبع)
* Alrafai16@hotmail.com
الرياض