حين بدأت الكتابة في منتصف الثمانينات لم يكن ثمة جيل سابق من القاصات السعوديات المؤثرات، كنت أقرأ عن خيرية السقاف ولطيفة السالم لكن لم تكن لهن نصوص متواجدة في الملاحق الثقافية أو كتب متوفرة، لكن لم يكن ثمة حركة إبداعية جديدة وفاعلة للقاصات آنذاك، كان التجديد في النص القصصي مرتبطاً بالكتابات القصصية الرجالية مثل نصوص جار الله الحميد وعبد العزيز مشري وعبد الله السالمي وعبد الله باخشوين، هناك أسماء أخرى بالطبع لكني لم أقرأ لها في تلك المرحلة وبالتالي لن أتحدث عنها هنا، وأنا هنا أتحدث عن تجربتي الخاصة وقراءاتي والنصوص التي كانت تأخذ بيد نصي ليكون مختلفاً - لا عن سمة عامة تمس جيلي - عني شخصياً فأنا لا أذكر اسماً نسائياً واحداً لقاصة من ذلك الجيل السابق قدمت لي نصاً جديداً جعلني أبحث في نصها عن نافذة لنصي، بينما في الشعر كان الوضع مختلفاً، كانت فوزية أبو خالد تكتب قصيدة النثر وتقدم نموذجاً صادماً لمعنى الشعر، وخديجة العمري تحلق بالقصائد نحو أفق جديد، وغيداء المنفى تطرح شكلاً مختلفاً للعلاقة مع المفردة في قصائدها،رغم غيابها إلا أن نصها كان متداولاً ومؤثراً، نص المرأة الشعري كان متجاوزاً وملهما بالنسبة لي، على العكس تماماً من نص المرأة القصصي، لذلك أقول إن تمرداً سكن كتابتي من خلال هذه القراءات فلم يكن ثمة حركة سردية نسوية تقود التغيير وترسم كتابة مختلفة، أو تقدم نموذج لنص متمرد ما عدا تلك النصوص الشعرية لتلك الشاعرات.
عند مشري كان النص سؤالا كبيرا قدمه بتجريب مختلف في مجموعته (موت على الماء) ثم عاد وقدم نصا آخر قريبا من قارئه - كما كان يتمنى- هذا القلق الإبداعي لدى مشري كان ملهما بالنسبة لي، لأنه يكتب والقارئ أمامه لا كرقيب ولا ضفة ساكنة بل كمتلق يهمه أن يفهمه ويقرأه، وظل مشري حياته كلها مهموما بهذا القارئ، قدم له نصوصا متميزة وعميقة لأنه يكتب وهاجس الوصول يتملّكه، لذلك كان التمعن في تجربة مشري الكتابية مثريا بالنسبة لي.
جار الله كتب النص المنفلت من الحركة الساكنة للنصوص القصصية، قدم النص - الحالة، النص الذي يكتبه جار الله لا ينتهي بنهاية النص، لذلك كثير من نصوصه ما زالت تسكن ذاتي المبدعة حتى اليوم، ما زلت أقرؤه وأندهش، أقرأ القصة ذاتها التي قرأتها ألف مرة بلهفة بكر وكأني أقرأها للمرة الأولى، جميع مجموعات جار الله قرأتها ولكني ما زلت أقرؤها بلهفة النص الجديد، أقرأها لأستمتع بالمشهد الحي، أقرأها لأعرف كيف كتبها، كيف تناول غيم الكتابة وعصره في نص حي! وكيف يمكن لنص قرأته مراراً مثل قصة (تفاصيل النوم العام) أن يظل يدهشني معتقدة أني سأعثر على شيء مختلف في كل قراءة! والعجيب أني أجد هذا الاختلاف لكني لا أقبض عليه ولا أستطيع أن أصفه.
خطى جار الله في القصة مختلفة، مبكية مضحكة موجعة ساخرة عابثة عبثية وحقيقية تنزع من سطر الحياة لون الدهشة وتزرعه في قارئها بشكل متجدد.
قصة عبد الله باخشوين أنيقة ونادرة الشبه، لا تجد نصوصا كثيرة تشبه نص باخشوين، القصة لديه مضفرة بإتقان شديد، تدخل معه النص وأنت تسمع دقات قلب الورقة - كما تقول فوزية أبو خالد في إحدى قصائدها- تقرأه وأنت مستعد لمفاجأة قادمة، يستيقظ النص مع باخشوين بلياقة شديدة، وينتهي وأنت لا تريده أن ينتهي! تظل معلق القلب ببعض النص وتقول ربما ما زال هناك بقية! يقظة مبكرة والحفلة وموت أيوب ما زلت أقرأ هذا القصص وآمل أن لا ينتهي النص، حيث انتهى في المرة السابقة! لكنه ينتهي وأمنيتي لم تتحقق بعد!
وذلك نجاح للكاتب، قلة من النصوص التي تنهيها وأنت تقول لماذا انتهت! ما كان ينبغي أن تنتهي هنا! لا لخطأ سردي ارتكبه القاص، بل لأن النص فتح شهيتك ولم يشبعك، عبأك بالأسئلة ولم يمنحك إجابة، أطلقك في فضاء جديد ولم يرشدك.
هكذا كتب باخشوين نصوصه ورسم بصمة شديدة الاختلاف لا ينازعه عليها أحد.
وللحديث بقية....
الرياض