لا أحد يستطيع أن ينكر أن «نوع الثقافة» عادة يرتبط «بنوع النظام السياسي»، وهذا الارتباط الشرطي أحسبه طبيعيا؛ لأن الثقافة هي إحدى أهم»تسويقيات» أي نظام سياسي، وقد يعتبرها البعض هي روح النظام السياسي وأنها أسبق في الوجود منه، باعتبار أن الثقافة هي منظومة فكرية في حين أن النظام السياسي هو منظومة إجرائية، والفكر يسبق الإجراء.
والحقيقة أن التأمل في محتوى هذا المسار ليس سهلا كما نتوقعه لأن المسألة بلا شك لا تنحصر في فردية «المقدمة والنتيجة» فلا يمكننا استسهال الفكر هاهنا فيما يتعلق بتأكيد الحتمية بأن كل «ثقافة هي مُنتجة لنظام سياسي» وإن كل «نظام سياسي هو نتيجة نوع من الثقافة» والتشكيك في هذه الحتمية يفسح المجال لاحتمال آخر هو أن هناك «نظاما سياسيا» هو الذي «يُنتج ثقافة نوعية « بحيث تصبح « المنظومة الإجرائية» هاهنا أسبق على «المنظومة الفكرية».
وبهذا الاحتمال الذي يجب أن نضعه في دائرة الضوء ونحن نتحدث عن «متلازمة الثقافة والأنظمة السياسية»، سنجد أننا أمام نوعين من الثقافة «الثقافة الصانعة» و»الثقافة المصنوعة».
وقد يعتقد البعض أن لا أهمية لمعرفة نوع وجود الثقافة إن كانت صانعة أو مصنوعة في سلم التأثير على العقل الجمعي بمناهجه المختلفة ومقرراته في ضوء خاصية التلازم؛ لأن النتيجة تغلب على العامل في نهاية الأمر والغلبة تُفقد عادة ميّزة التراتبية على مستوى الاندماج، لكنها لا تُفقدها على مستوى التحليل، إذ تظل تلك الميزة تحتفظ بقيمتها على مستوى تحليل الوقائع باعتبار «أن التحليل يرد الأشياء إلى أصلها».
والأمر لا يقتصر على هذا الجانب؛ أقصد أهمية معرفة القيمة التراتبية «للثقافة الصانعة والمصنوعة» في الدرس التحليلي للوقائع، بل الأهمية تتجاوزه لتشمل عدة أمور منها، العلاقة والمفهوم والقانون أو «السلوك المضبوط»، إضافة إلى التحليل، وبذلك فنحن نقف أمام ثلاث دوائر، دائرة التفكيك والارتباط والذي يمثلها عنصر «التحليل» ودائرة الفهم الذي يمثلها عنصري «المفهوم والعلاقة» ودائرة النمذجة أو الإجراء والذي يمثلها عنصر «القانون» أو السلوك المضبوط
وبالتالي فتأسيس المنظومة التقويمية لتلك الدوائر الثلاثة لابد أن تراعي قيمة ميزة التراتبية.
أن معرفة القيمة التراتبية يساعد على ضبط العلاقة بين المؤثر والمتأثر، وإيجاد تشكيلات علائقية جديدة أو تطوير وتعديل وتجديد الخلايا العلائقية القديمة، وفي جميع الحالات فالمقصد عادة يركز على وجوب تفعيل «علاقات اقتضائية».
كما أن معرفة تلك القيمة يساعد على توثيق تاريخ المفاهيم التي تتأسس في ضوئها طرائق الإنتاج الفكري للجماعة ومعايير الاختيار .
والثقافة الصانعة هي التي تدعم الدلالة التاريخية للمفهوم المتوارث، في حين أن الثقافة المصنوعة هي التي تفرض الدلالة الآنية على المفهوم المتوارث في ضوء انزياح مقصود للدلالة التاريخية لإيجاد «منتج اقتضائي».
ولا ينفصل عن العناصر السابقة السلوك المضبوط أو القوانين التي تضبط السلوك الاجتماعي، فالثقافة الصانعة هي التي تدعم السلوك المتوارث، في حين أن الثقافة المصنوعة هي التي تفرض على الفاعل الاجتماعي «سلوك اقتضائي».
والثقافة الصانعة المنتجة لنظام سياسي قد تتحول إلى ثقافة مصنوعة عندما تهيمن عليها أدلجة مؤسسة النظام وتحاول إعادة إنتاج أوليات الثقافة الصانعة وفق تلك الأدلجة مما ينقل وظيفة الثقافة الرئيسة إلى مؤسسة ثقافة النظام.
تعتبر الثقافة الصانعة للنظام السياسي هي «مصدر القوة»، ويصبح النظام السياسي هو «ناتج مصدر القوة».
ولكن كيف يتحول «ناتج القوة» أي النظام السياسي فيما بعد إلى «مصدر قوة بديلا لمصدر القوة الأساسي» ويتحول «مصدر القوة» الثقافة الصانعة إلى «ناتج قوة» من خلال الثقافة المصنوعة؟.
يتم تحويل ذلك المسار عبر عملية «التبادل والانزياح» لإعادة إنتاج صناعة الثقافة أو تحويل الصانع إلى مصنوع.
الثقافة عبارة عن مجموع من المفاهيم والعلاقات والإجراءات، وبذلك تصبح الثقافة الصانعة هي «مجموع من المفاهيم والعلاقات والإجراءات المُنتِجة»، وتصبح الثقافة المصنوعة هي أيضا «مجموع من المفاهيم والعلاقات والإجراءات المُمثَلة»، والفرق بينهما كما هو واضح هو قيمة ونوع وظيفة كل منهما، فالثقافة الصانعة هي فاعل الإنتاج، في حين أن الثقافة المصنوعة هي «دور لتمثيل» أو «تمثيل لدور» يحدده النظام السياسي وبالتالي يتحول ناتج القوة إلى مصدر قوة لإنتاج.
وتتحول الأنظمة السياسية إلى مصدر إنتاج «ثقافة» في حالتين.
الحالة الأولى إذا عجزت الثقافة الرئيسة التي أنتجت النظام عن مراعاة التطور الاقتضائي للمجتمع أو إعطاء تشريعات فكرية لتطوير النظام السياسي في هذه الحالة يقوم النظام السياسي بصناعة ثقافة ت ٌشرّع له ما يحتاجه قوانين للعصرنة.
وبنقل النظام وظيفة الثقافة الرئيسة إلى مهامه يسهم في بروز «الثقافة الموالية له» و»الثقافة المعارِضة» ويسنّ صراع الثقافات.
والحالة الثانية تتحول الأنظمة السياسية لإنتاج الثقافة في حالة الانقلابات السياسية والثورات الجماهيرية إذا يسلب النظام السياسي وظيفة الثقافة الصانعة لمصلحته ليقوم بدورها فيُنتج «الثقافة المصنوعة» التي تُدعم معايير نظامه وتُثبت مناهجه.
فالثقافة الصانعة في حالة الثورات تمرّ بمرحلة عدم فهم للطارئ المصاحب للثورة.
و مرحلة عدم الفهم يترك شاغرا قد تنمو فيه ثقافة الفوضى أو البلطجة أو التأليه وهي دلالات يستغلها نظام ما بعد الثورة لصناعة ثقافة ما بعد الثورة، وهو مثل النوع الأول يسهم في بروز «الثقافة الموالية» و»الثقافة المعارِضة» و»الثقافة الثورية» ويسن صراع فوضى الثقافات.
جدة