ونحن نعرف كذلك كم هي قاسية هذه الحقيقة غالباً، فنتساءل إن لم يكن الوهم إلا أكثر عزاء، ولكن، أكثر تحصيناً. فالوهم هو الذي يمنحنا الثقة. ولو زال الوهم، فهل يبقى لدينا الأمل والشجاعة، أي ما يدفعنا إلى الفعل...؟
سنكون مثل الجواد المربوط إلى مدار، الجواد سيرفض، أن يتقدم أكثر من خطوة حول المدار إن لم نعصب عينيه، فالذي يبحث عن الحقيقة يجب أن يكون حراً، وهكذا ترعب الحقيقة الكثيرين منا ويعتبرونها سبب ضعف. إلا أننا يجب ألا نخاف من الحقيقة، فهي وحدها تملك الجمال.
تصوغ عقول كبيرة فكر المراحل التاريخية المتعاقبة. أما الفكر الحديث فإنه أكثر ما يعتمد على تأثير تشارلز داروين. من الواضح أن تصورنا للعالم وموقعنا فيه مع إطلالة القرن الحادي والعشرين يختلف بشدة عن الطابع العقلاني والأخلاقي والثقافي لبداية القرن التاسع عشر. لقد تعددت منجزات داروين وتنوعت بحيث صار من المفيد تمييز ثلاثة مجالات قدم فيها إسهامات رئيسية وهي: البيولوجيا التطورية، وفلسفة العلوم، والاتجاهات العقلية والثقافية والأخلاقية الحديثة.
أسس داروين فرعا جديدا من علوم الحياة هو البيولوجيا التطورية. وحظيت أربعة من إسهاماته في البيولوجيا التطورية بأهمية خاصة، إذ تجاوز أثرها كثيرا حدود علوم الحياة.
ويتمثل أول هذه الإسهامات في مبدأ عدم ثبات الأنواع. أو المفهوم الحديث للتطور نفسه.
أما الإسهام الثاني فيتمثل في فكرة التطور المتفرع التي تعني ضمنا التحدر المشترك لجميع أنواع الكائنات الحية على الأرض من أصل واحد فريد.
فقد كانت جميع الاقتراحات التطورية حتى عام 1859 تؤيد مبدأ التطور الخطي الذي يقول بالمسيرة الغَرَضِيّة (الغائية) نحو الكمال الأكبر، وهو ما كان رائجا منذ المفهوم الأرسطوطالي عن سلم الارتقاء الطبيعي بمعنى سلسلة الوجود. فقد ذكر داروين أن التطور لا بد أن يكون متدرجا من دون فرجات أو انقطاعات رئيسية. وانتهى داروين أخيرا إلى المُحاجَجَة بأن آلية التطور إنما تمثلت بالانتقاء (الانتخاب) الطبيعي.
لقد شكلت هذه التبصرات الأربعة قاعدةً لتأسيس داروين فرعا جديدا من فلسفة العلوم، هو فلسفة البيولوجيا. فعلى الرغم من مرور قرن من الزمن قبل أن يكتمل تطور هذا الفرع الجديد من فروع الفلسفة، فإن شكله النهائي يقوم على المفاهيم الداروينية. ويُذكر على سبيل المثال أن داروين أدخل الجانب التاريخي إلى صلب العلوم. فالبيولوجيا التطورية، على النقيض من الفيزياء والكيمياء، تُعد علما تاريخيا؛ بمعنى أن علماء التطور يحاولون شرح الأحداث والسيرورات التي سبق أن حدثت في الماضي. فالقوانين والتجارب ليست تقنيات ملائمة لتفسير مثل هذه الأحداث والسيرورات؛ بل، عوضا عن ذلك، ينبغي صياغة قصة تاريخية تشكل تصورا مؤقتا للسيناريو الخاص الذي قاد إلى الأحداث التي نحاول تفسيرها.
إن اكتشاف الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي من قبل داروين يجب أن يعد في حد ذاته إنجازا فلسفيا رائعا. وقد بقي هذا المبدأ مجهولا طوال ما ينوف على الألفي عام من تاريخ الفلسفة التي امتدت من عهد الإغريق حتى أيام هيوم وكانتْ والعصر الأكْتوري. وقد حظي مفهوم الانتقاء الطبيعي بقوة لافتة للنظر في تفسير التغيرات التوجيهية والتكيّفية ؛ أما طبيعته فإنها البساطة نفسها، إذ إنه لا يمثل قوة ملزمة تشبه القوى الموصوفة في قوانين الفيزياء.
لقد كان داروين ذا نظرة شمولية. فبالنسبة إليه كان موضوع الانتقاء أو هدفه هو الفرد ككل، أما علماء الوراثة فقد آثروا منذ بداية عام 1900 تقريبا اعتمادَ النزعة الاختزالية واعتبار الجينة (المورثة) هي المستهدفة بالتطور. ولكنهم في السنوات الخمس والعشرين الماضية عادوا إلى النظرية الداروينية التي تعتبر الفرد هو المستهدف الرئيسي.
وعلى مدى ثمانين عاما بعد عام 1859 ثار تعارض مرير حول اعتبار أي من النظريات المتنافسة الأربع هو الصحيح. فنظرية التطافر Transmutation تتحدث عن تأسيس نوع حي جديد أو نمط جديد عبر طفرة مُفردة، أو انتقال قفزي ؛ أما نظرية النشوء الوتيري orthogenesis فترى أن ما قاد إلى التحوّل هو نزعات غائيّة داخلية؛ في حين استندت نظرية التطور اللاماركي(3) إلى وراثة الخاصيات المكتسبة. والآن هناك نظرية التطور التبدلي الدارويني عبر الانتقاء الطبيعي. وبرزت نظرية داروين بوضوح على أنها المنتصرة أثناء مرحلة الاصطناع (التركيب) التطوري synthesis evolutionary في الأربعينات من القرن العشرين حينما تزاوجت الاكتشافات الجديدة في علم الوراثة مع الملاحظات التصنيفية(4) (التي تخص علم التصنيف systematics). ويكاد يجمع اليوم التطوريون المرموقون على قبول الداروينية. يضاف إلى ذلك أن الداروينية صارت مكوِّنا أساسيا في الفلسفة الجديدة للبيولوجيا.
وهناك مبدأ يُعد الأهم في الفلسفة البيولوجية الحديثة ظل غير معروف إلى ما بعد مرور قرن تقريبا على نشر بحث داروين: حول أصل الأنواع، ويتمثل في الطبيعة المزدوجة للسيرورات البيولوجية. فهذه الفعاليات تحكمها القوانين الشاملة للفيزياء والكيمياء، كما يحكمها أيضا برنامج جيني (هو نفسه نتيجة للانتقاء الطبيعي) صاغ النمط الوراثي على مدى ملايين الأجيال. ويعد العامل السببي causal factor لامتلاك البرنامج الجيني سمة فريدة للكائنات الحية، وينعدم كلية في العالم اللاحي. ولم يكن داروين يعي هذا العامل الأساسي، بسبب الحالة المتخلِّفة التي كانت عليها المعرفة الجزيئية والجينية في زمانه.
وهناك جانب آخر للفلسفة الجديدة في البيولوجيا يتعلق بدور القوانين. فالقوانين تفسح المجال لمفاهيم في الداروينية. وفي العلوم الفيزيائية عادة ما تُبنى النظريات على القوانين؛ فعلى سبيل المثال قادت قوانين الحركة إلى نظرية التثاقل gravitation. أما في البيولوجيا التطورية فغالبا ما تُبنى النظريات على مفاهيم مثل التنافس competition والاختيار الأنثوي female choise والانتقاء والتعاقب succession والسيادة dominance. ولا يمكن اختزال هذه المفاهيم البيولوجية والنظريات المبنية عليها إلى قوانين العلوم الفيزيائية ونظرياتها.
لم يشرح داروين نفسُه هذه الفكرة بوضوح قط...!!
... كان مهندسو الثورة العلمية قد كونوا صورة للعالم مبنية على المذهب الفيزيائي physicalism، وعلى المذهب الغائي والجَبْرية ومبادئ أساسية أخرى غيرها. هكذا كان تفكير الإنسان الغربي قبل نشر بحث داروين عام 1859 «حول أصل الأنواع». وكان لابد للمبادئ الأساسية التي اقترحها داروين من أن تواجه صراعا شاملا مع هذه الأفكار السائدة.
فمن ناحية أولى، ترفض الداروينية جميع الظواهر والمسبِّبات فوق الطبيعية. وتفسِّر نظريةُ التطور حسب مبدأ الانتقاء الطبيعي موضوعَ التلاؤم adaptedness والتنوع diversity في العالم على نحو مادي حصرا. فكل جانب من جوانب «التصميم المدهش» الذي يُجِلُّه اللاهوتيون الطبيعيون إلى حد كبير يمكن أن يجد تفسيرا له في الانتقاء الطبيعي. وكذلك تكشف النظرة المتأنية أن هذا التصميم كثيرا ما لا يكون مدهشا جدا. ووجهة نظر داروين حول الخلق فسحت المجال لتفسيرات علمية بحتة لجميع الظواهر الطبيعية، وأدت إلى نشوء مذهب الواقعية positivism، كما ابتعثت ثورة فكرية وروحانية دامت تأثيراتها حتى يومنا هذا.
الرياض