الكتابات الفلسفية حول الشعر أكثر من الشعر نفسه، منذ أرسطو ولا يكاد يظهر ناقد أو فيلسوف إلاّ وتظهر معه آراؤه حول كينونة الشعر وتكوين الشاعر.. بينما الشعراء أنفسهم نادراً ما يجرؤ بعضهم على الخوض في مثل هذه الأسرار(!) لذا أصبحت هذه النوعية من الكتابات (عائمة) بالمجمل، ولكنّ التفصيل فيه بعض النظر..
بمعنى: قد تأتي مع النقاد تصورات تقترب من كنه الشعر عند شاعر ما، وتبعد من ذلك عند شاعر آخر، ولا أدري لماذا يصرُّ الناقد - أيّ ناقد - على اتخاذ (الشعر) كشيء واحد لا يختلف عليه اثنان، واتخاذ (الشاعر) على أنه شاعر واحد لا يختلف باختلاف الشخوص والعصور والتمايز بين إنسان وإنسان؟
أقرأ الآن دراسة بحثية مطولة للناقد اللبناني د. شفيق البقاعي، منشورة في العدد الأخير 83 من مجلة (كتابات معاصرة) عنوانها (فلسفة الشعرية والشاعر)، ولم أستسغ العنوان بداية؛ إذ يتجاوز (الشعر) إلى (الشعرية)، ويقف عند (الشاعر) كما هو، فهل ثمة فرق بين الشعرية والشعر؟ إذا كان النقد الحديث (أو ما بعد الحداثي بوصفه حديثاً!) يعني بالشعرية تلك الخواص الكامنة في معادن الشعراء، وهي ليست بالضرورة ما ينتجونه من (شعر)، فأنا أستسخف تلك الرؤية، وأرى أنها تنطبق على من هم ليسوا بشعراء، لكن تلك (الشعرية) تسكنهم بشكل أو بآخر، أما (الشاعر) فيسكنه (الشعر) بكل قواميسه ومعانيه..
تتشكل دراسة د. شفيق البقاعي من ستة محاور يسبقها العنوان الوصفيّ العريض (نظرية نقدية لحوار النص والتأويل)، ثم 1- الموقف من النص والتأويل، 2- الذاكرة في كتابة القصيدة النص، 3- الخلق الشعري لحظة التركيز، 4- الغنائية والموسيقى، 5- التأويل وجدلية النص، 6- التأويل.. حوار نظري.
الدكتور شفيق البقاعي، أستاذ النقد والنظرية بالجامعة اللبنانية أحد رموز النهضة الأدبية الحديثة أحد كبار تربويي لبنان المعاصرين، دراساته لها قيمتها المعرفية دون شك، لكني لن أتوقف عند كل محور من هذه المحاور الستة في هذه الدراسة؛ فهي من النوع الفلسفيّ النظريّ الذي لا يعجبني ولا أوافق عليه، وأرى أنه كغيره من الكتابات المماثلة لا يضيف جديداً سوى الدوران أكثر في فلك الشعر دون ملامسته الملامسة الحقيقية التي لن تكون أبداً إلاّ بملامسة الفن عموماً؛ فلكل فن أدواته، وأدوات الشعر هي كلّ أدوات الفن؛ فلماذا لا نفلسف الفن من باب أولى وندرس ماهية الفنان بالمطلق؟!
أقول: من الدراسة كلها استوقفني محور واحد رأيتُ فيه تلخيصاً جميلاً أعجبني جداً حول (الذاكرة في كتابة القصيدة)، ولولاه ما كنتُ وقفتُ عند هذه الدراسة بمقالة؛ فقد تناول الناقد هذه الجزئية (الذاكرة) تناولاً يستحق التأمل طويلاً، يقول:
(معظم الشعراء والأدباء تمثل مرحلة الطفولة عندهم المخزون الذهبي (أو صندوق الدنيا) الهائل للذكريات من أجل الإبداع. يقول سبندر - ويقصد الشاعر والناقد الإنجليزي ستيفنهارولدسبندر 1909- 1995 - في هذا الصدد: الذكرى حين تعود مرة لا تعود ذكرى، إنها تغدو حاضراً؛ لأننا في كل مرة نمارس شيئاً يستدعيها..). ويتابع: (قد يكون من الحق القول إن الذكرى هي وظيفة الشعر؛ لأن التخيّل ذاته هو ممارسة للذاكرة؛ فليس من شيء نتخيله ونحن لا نعرفه بالفعل، وقدرتنا على التخيل هي قدرتنا على تذكّر ما جربناه، وتطبيقه على أوضاع مختلفة.. لهذا فإن أعظم الشعراء هم أولئك الذين يتمتعون بذاكرة عظيمة تمتد إلى ما بعد أقوى تجاربهم.. تمتد إلى أدق ملاحظاتهم عن الناس والأشياء.. تمتد بعيداً عن مركزية الذات، ضعف الذاكرة هو في مركزتها على الذات؛ من هنا تأتي الطبيعة النرجسية لمعظم الشعراء)!
ومن هنا صفقتُ طويلاً لهذا الكلام، الذي هو للشاعر سبندر أساساً، قبل أن يكون للناقد سبندر، أو للناقد الدكتور شفيق البقاعي، أو لأي ناقد أو فيلسوف ما لم يكن شاعراً!
والخلاصة أجدها في مقولة ستيفن سبندر الشهيرة:
(إنني أشعر بالرعب من كتابة الشعر؛ فالقصيدة رحلة مخيفة، وجهد مؤلم من أجل تركيز الخيال). وأختم بالتعليق عليها: نعم هي القصيدة رحلة مخيفة، لكن يستحيل معها كل تأويل، أو فلسفة، أو حتى خيال يحاول الانفلات بمنأى عن الذاكرة.
ffnff69@hotmail.com
الرياض