هذا الجنس الأدبي الأثير الممتع المراوغ الميال إلى التكثيف، الوامض في لغته وزمانه وشخوصه، والحميمي الدافئ في دلالاته، والقصة القصيرة كجنس أدبي وفني سردي، شكّلت حضوراً مدهشاً في الثمانينات والتسعينات، وحظيت بالمكانة الثانية بعد الشعر بطبيعتها كفن أدبي مكانة ومتابعة، وحظي نتاج ما سمي حينها بالجيل الثاني بالمتابعة والقراءة والنقد، وينسب لهذا الجيل ما يمكن قوله، توطين هذا الجنس الأدبي في حضور الشعر الطاغي، وبالذات مع حضور حركة الحداثة الشعرية، ونحت في ميلها إلى التجديد فنياً، واستحضار دلالات وأشكال وبنى نصية، لا تنتمي إلى السائد من الكتابة التقليدية.
اختلفت في تلك الحقبة النصوص القصصية، وتنوعت في انتمائها إلى المدارس والمذاهب السردية المتنوعة، وتراوحت الغالبية بين الواقعية والرمزية، وشكّلت لغة القصة القصيرة الدلالات المتنوعة، ولكنها في مجملها عكست واقعها الزماني والمكاني، مقتربة من اللغة الشعرية الظاهرة في بعض النصوص الكتابية حيناً، وتتلوّن أحياناً فنلمح التقنيات الحديثة في نصوص أخرى مماثلة، وتبقى السمة السائدة في خطابات نصوص تلك المرحلة، تجسد حالات الضياع والغربة والحرمان والاستلاب والشتات والسفر وصدمة المدينة، ورسم صور الفوارق والهوة المجتمعية الكبيرة، واقتصرت غالبية نصوص تلك المرحلة النظر من زاوية فردية، يأتي ذلك لطبيعة جنس القصة القصيرة، فبرغم حضور البيئات المجتمعية لنصوص تلك المرحلة، فقد غابت المعالجة المجتمعية كفضاء للنصوص، لتأتي الرواية كفن شامل لكل الفنون، وهي من يحفل بالفضاء الروائي بطبيعة الفن، وكانت الرواية غائبة في تلك الفترة، حدث ذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر، وانفراج الزوايا المغلقة، وحضور وسائل التقنية الحديثة لغة العصر والجيل، فشهدت الرواية هذا الفن الشامل لكل الفنون، توجه كتاب السرد القصصي وبعض الشعراء أيضاً، اتجهوا إلى كتابة الرواية، وبالذات الجيل الثالث من كتّاب القصة القصيرة...
كان لابد من هذا الاستطراد، وفي الذاكرة أسماء مبدعة ومميزة وكثيرة، برعت في كتابة القصة، وقليل منهم ظل على وفائه لهذا الجنس الأدبي الأثير، وتنازل البعض وأنا منهم لسطوة الرواية، ومبدأ تداول الفنون الحضور، وأذكر في هذا السياق أن من بين كتّاب (ق ق ج) بالذات، يأتي الزملاء الأصدقاء (جبير المليحان) ومحمد الخليوي، فقد ظلا على وفاء وحميمي الصلة بفن القصة القصيرة جداً، وعشق بارع مع نسيج هذا الجنس الأدبي الفني، دون كتابة أجناس أدبية أخرى حتى لو كانت لكليهما كتابة شعرية، تقترب بطبيعة القصة إلى الحالة الشعرية، وأذكر أن الصديق فهد الخليوي، ظل غائباً وبعيداً عن حراك المشهد الثقافي وضجيجه، يرسل بين حين وآخر تلويحة قصصية قصيرة، وكأنها تكفي لتبث ما في روحه المحتشدة، فيذهب ويغيب في غياهب الصمت من جديد، شاء القدر أن يكون اللقاء بيننا في السماء، كنت أجوس داخل طائرة الرحلة اليمانية الثقافية، أبحث عن الراحل الكبير الشاعر - محمد الثبيتي، فوجدت (فهّد) بلفظة الثبيتي صديقه الحميم إلى جواره، فكان المفاجأة السعيدة على هامش الأيام الثقافية في اليمن، وقد تخيلت (الخليوي) فناناً أصيلاً ونهراً من الجمال والحب، يتأمل ويشير في تكثيف شديد، واقتصاد دلالي موجز وصائب، ويدع للآخرين مساحة واسعة من الكلام!
رياح وأجراس، المجموعة القصصية الأولى، فجرت ينابيع و(كتابة الصمت) كما وصفها / الأستاذ علي الدميني في قراءة للمجموعة، فيستحضر البعد الزمني العميق الكامن خلف هذه الإطلالة المتأخرة لأكثر من ربع قرن على الأقل، ويختصر بهذه الإطلالة مساحة هائلة من الزمن والقضايا المتشابكة، ويضعها في دائرة الفنان المتقد وعياً، فيتناولها كما يفعل جراح بمشرطه في جسد مثخن بالعلل، ولم تخرج عن السياق (متعة النص) ناقدة مهمة جداً، د. شادية شقروش في قراءاتها النقدية لمجموعة رياح وأجراس، فالدكتورة شادية التي نفرح بتواجدها كما تتواجد أسماء مهمة أخرى بيننا، وهم على قدر من الأهمية في ذات السياق وفي عالم السرد من شمال أفريقيا، فتضيف الدكتورة شادية لقراءة المجموعة معنى ورؤية جديدة، وتصفها بأنها لو كانت مجرد سرد للواقع فلن تنبهنا إلى شيء، لأننا جزء من هذا الواقع ونعيشه، ويمر أمامنا من خلال العين السحرية عبر الشاشة العادية، لكن شاشة القاص (الخليوي) داخلية وخارجية، تنقل اللامرئي وتضع أمام المتلقي في آن واحد عبر بساط اللغة السحري وبطريقة تقنية فنية مكثفة مثل الحلم، وتتم طريقة التكثيف السريعة في كيان المتلقي داخلياً وخارجياً مما يخلق التوازن، فيكشف هذا الأخير الحقيقة الناصعة من خلال هذا الواقع المرمز الذي ينصهر فيه الوعي باللا وعي، والخارق بالعادي، مما يشكل فسيفساء من لوحة غريبة، فستستفز المتلقي لمعرفة ما تكتم من معان لائذة في الأقاصي، ويشعُ تحت رسومها المسكوت عنه في النص..!
القارئ لنصوص المبدع / محمد الخليوي، حتماً تستوقفه بداية العناوين اللماحة المبتسرة حيناً، رياح / إبادة / أجراس / البوابة / عرس / مكابدة / ظلام / ذكرى / صحراء / جحود / وهي عناوين تحمل دلالتها المجردة بلا ال التعريف، ولكن المبدع هنا، يضيف لحمولتها الدلالية ما يضيء النص، والخليوي لا يمضي على وتيرة وفي ذات السياق الكتابي، واختيار العناوين المعبرة في كلمة واحدة، فقد يضع لنص قصير جداً، عنواناً طويلاً لا تقل مفرداته عن مفردات النص كاملاً، لكنه لا يعمد إلى فعل ذلك كثيراً، فلعبة الخليوي الكتابية المدهشة، تنبع في تنوعه الخطابي، والقدرة على استجلاء خطابات لها هم إنساني ومعرفي وإبداعي، وتمس الواقع وتستشف أعماقه، وبالتالي أوجدت لنا مساحة للتأمل ونصوصاً قابلة للحياة..
قراءة نصوص مجموعة رياح وأجراس، لا بد أن تفرز قراءة مبدعة موازية لها، وليتني أستطيع استحضارها - نصاً هنا. لكن لا بد من الاعتراف بأن سطوراً معدودة غير كافية، لاستبطان النصوص والإشارة إلى دلالاتها المتعددة والمتنوعة، كينابيع صافية تصب في مجرى نهر واحد، ولا بد من استحضار التراكم الزمني والحياتي، فضوء الومضة القصصية يضعنا بين فواصل الزمن، وما لم نستطع أن نلمحه في خارج النصوص والواقع، سيصدمنا به النص وجهاً لوجه، ويجعلنا نعيد قراءة ذواتنا بمتعة كما نعيد قراءة النص، لأننا سنجد أنفسنا بواقعنا داخله، وأجزم أن تقنية الخليوي الفنية، منحت نصوصه إلى جانب خطاباتها القيمة العالية، فالنصوص التي كتبت بتاريخ قديم، تحتفي بذات التقنية والرؤية الفلسفية للنصوص الأحدث كتابة، ومعنى هذا أن الكاتب الناضج، لا يكتب لدواعي الكتابة ذاتها بدون هم إنساني وإبداعي، يلحُ عليه ويرهقه فتأتي الكتابة متنفساً وتحرراً من قيود، وجدت في الكتابة معادلاً موضوعياً..
كتابة المبدع الكبير / محمد الخليوي، مجروحة وجارحة في ذات اللحظة، فالكتابة الآتية من عمق الجراح المجتمعية المعاشة على مستويات متنوعة، لا بد أن تكون جارحة وهي تتبع حالات شخوصها ومصائرهم، فالنصوص مفتوحة على الزمن المطلق، فلا تصنيف ولا شخصنه ولا بحث مجاني عن جمالية المكان، فالحالة (سيدة) النص مع حضور المرأة المتوالي وقضاياها المتنوعة، فلا تخرج النصوص عن الحالة السردية المكثفة، تجاوز النظر إليها كحالة فردية إلى حالة مجتمعية، والكاتب حينما يضعنا في مواجهة محتومة مع نهايات نصوصه، يستفز فينا التفكير والسؤال والمتعة، والمشاركة وتمثل الحالة والبحث عن نوافذ للنجاة والحرية، وخلاصة القول ونحن إزاء نصوص قصصية، غاية في العمق وتجلية الواقع وقراءته وتحليله، نستشف هنا - والمجموعة تستحق قراءات نقدية توازي العمق الكتابي، أن الصديق (أبو سليمان) بهذه النصوص الممتعة جمالاً ومعنى، يرسخ فينا مبدأ القيمة الفنية العالية، وضرورة بقاء الفن الجميل في مواجهة سيل هذا الانهمار الكتابي.
الرياض