تشيع تسمية (الشأن العام) في معنى الهموم والحاجات المتعلقة بالمعيش المشترك للمجموعة الوطنية أو القومية أو الإنسانية، وهي هموم وحاجات تغلب عليها الصفة النفعية والعملية المباشرة: الخدمات والأنظمة والحقوق والعلاقات والأفكار والهموم الاجتماعية، وذلك في مقابل الشأن الخاص وهو ما يهم الفرد من جهة أو المجموعة ذات الاختصاص كالأدباء أو الفنانين أو الأطباء أو الأكاديميين... إلخ من جهة أخرى. فهموم الفرد هي دائرة خاصة في إطار هموم المجموعة التي يندرج فيها، والهموم والاشتغالات ذات الاختصاص بمهارة أو معرفة هي مساحة نوعية وكمية في مقابل ما يسم الشأن العام من عموم. فليست -مثلاً- جماليات الشعر أو القصة وليست دراسات الأدب المقارن من موضوعات الشأن العام تماماً كما هي علوم التشريح والكيمياء الحيوية. والأمر نفسه في مشكلات الفرد ومشاغله وطموحاته: زواجه ودراسته وعمله وكسبه وسلوكه وفقره ومرضه... إلخ كلها دائرة تخص إرادته وقدرته ورغبته وحظه.
لكن مسألة الشأن العام والخاص ملتبسة في بعض مستوياتها، فليس هناك خصوص معزول قطعياً عن العموم. بل يمكن القول إن ما نعدُّه خاصاً هو في جوهره بخلاف ذلك؛ فأين الخصوص فيمن يشتغل بالأدب أو الطب أو غيرهما من المهارات والمعارف؟ هل هو الفاعل الإنساني ذو الدربة والموهبة والعلم؟ أم هو الهدف والغاية التي يتوجه إليها هذا الاختصاص؟ إن الأدب مادة للتلقي العام ولو كان جهد الأديب أو صاحب العلم الأدبي مقصوراً عليه أو على مجموعته الأدبية لما كان له من أهمية، ولكن أهميته متأتية من مصدره ومورده المثمَّن إنسانياً. والقول نفسه نقوله عن الأطباء والمهندسين فما يشتغلون عليه هو خصوص ليس لغيرهم القدرة على فهمه ومقاربته ولكنه ينتهي إلى قيمة ذات عموم إنساني. وقد نقول في مقابل ذلك إن ما نعده شأناً عاماً هو بمعنى أو بآخر أقل عمومية مما تتضمنه صفة العموم فيه من إطلاق. فالشأن العام في الأفكار المجردة والمبادئ أوضح منه في التطبيقات والسلوكيات والتجليات التاريخية، والقيم الأخلاقية العليا هي قيم تجريدية ولكنها لا تتجلى إلا في إطار زماني ومكاني واجتماعي وثقافي معين وهذا هو خصوصها.
إن الشأن العام هو لب الفعل الثقافي ومحور ارتكازه بمختلف تجلياته، وذلك إذا ما اتفقنا على أن الثقافة هي فعل التأثير في الوعي وإكسابه خبرات وتجارب ومفاهيم ومعاني والتأثير فيه. فهل يمكن أن نتصور الشاعر أو الروائي أو الفيلسوف أو المفكر أو الناقد بلا هموم عامة؟! كلا، لكنه يشتغل في مستوى نوعي وكمي له خصوص على مستوى الشكل والرؤية وعلى مستوى المضمون. إن المسألة هنا تأخذ شقين: أولهما، كيف تقارب الثقافة الشأن العام؟ والثاني، ماذا نعني بالشأن العام؟. فأما مقاربة الشأن العام فإن القصيدة غير القصة وهما غير المقالة أو البحث الفكري، وذلك كله غير النشاط الصحفي بمختلف ألوانه وقنواته. فإذا تأملنا في هذه الخطابات الثقافية فسنجدها تتغاير على مستوى التوجه المباشر أو غير المباشر، وعلى مستوى التوجه إلى الفرد أو إلى المجموع، فضلا عن مقوماتها الخطابية شكلاً ومضموناً. ومن هذه الوجهة لن نجد اسماً ثقافياً بارزاً لم يهتم بالشأن العام، بل إن المسألة ستبدو على نحو من الترابط الذي يصل بين عمق الإدراك للدور الثقافي بالمعنى المذكور أعلاه وقوة تجسُّده وتمثيله في الشخصية الثقافية وبين احتفاظ الذاكرة به واتساع مدار شهرته.
أما الشأن العام فهو دلالة عموم ينتهي إليها كل خصوص، لكن المشكلة هنا هي في تنوع التصورات واختلافها بين من يرى في الخصوص سواء كان فردياً أو اجتماعياً -على اختلاف مستويات الاجتماعي- أهمية مقدمة على العموم، أو أن العموم عقبة في سبيل التعميق للخصوص وإفساح المدى له. وعكس ذلك تلك الرؤية التي تقدم العموم بمستوى أو آخر على الخصوص، فالجماعة أهم من الفرد، والكل الإنساني أو الديني أو القومي أو الوطني أهم من الكل بمعان أضيق وأقل. وهنا يغدو الخصوص عقبة في سبيل تعميق معاني العموم وإفساح المدى له على رغم الفرديات والأقليات. والمحصلة تذهب إلى طرفين حادين ومتضادين ومتنابذين، ولا ينفكان عن تبادل الاتهام بينهما من جهة التوليتارية في جانب والحرية في جانب آخر. لكن التأمل في المسألة عميقاً يقفنا على مبتدأ المشكلة وهو الفرز بين العموم والخصوص، والجماعي والفردي لأنه فرز غير واقعي أو عملي فهل هناك فرد يعيش خارج العموم الاجتماعي والإنساني؟! وهل هناك عموم اجتماعي وإنساني بلا أفراد يؤلفون عمومه؟! كلاّ، وهكذا لا تغدو سعادة المجموع في التضييق على الفردية وتكبيل حريتها، وبقدر ذلك فإن سعادة الفرد ودلالته لا تستمد من غير العموم الذي يندرج فيه، والذي يستقطبه عضواً بنَّاءً فيه. وسواء كنَّا في أقصى اليمين أم أقصى اليسار أم في تدرجات الموقع بينهما فإننا سنجد مثقفين ينتجون الثقافة من موقعهم الذي يغدو دلالة على مرجعية الشأن العام فيما ينتجون.
لكن العلاقة بالشأن العام تطرح على الثقافة سؤالاً عن قيمة الكتابة المشتغلة به على نحو نفعي ومباشر. وتقابلنا هنا صفة (كاتب الخدمات) التي تُطلَق على من يهتم بمشاكل البطالة والسكن وحفر الشوارع وانقطاع الكهرباء والماء والقبول في الجامعات ووسائل النقل العام... إلخ. فللوهلة الأولى يبدو كاتب من هذه الوجهة أكثر أهمية -ليس لأصحاب المعاناة فقط بل لعموم قراء الشأن العام- من الشعر والروايات ومن الدراسات المؤلفة حول المتنبي وألف ليلة وليلة، بل حتى من دراسات العلوم الاجتماعية المسحية للمجتمع والملتصقة بالضروري والإشكالي فيه. ولهذا تغدو صفة (كاتب الخدمات) شهادة اهتمام في حقه. أما من وجهة المختصين فإن (كاتب الخدمات) صفة تحقير وحط من القيمة، وسبب ذلك يعود إلى اتصالها بالعموم وهو في الثقافة العالمة أقل منزلة من الخصوص الأدبي أو العلمي، والمعنى الأساسي في ذلك أنه بلا حاجة إلى مهارات وقدرات بلاغية وأدبية ومعرفية، ومن كبير الخسارة في منظور الأدباء أن نجد شاعراً يطالب بمدرسة أو مستوصف لقرية، أو يتحدث عن بطالة الخريجين من بعض التخصصات الجامعية!
وفي السياق نفسه -لكن من وجهة مقابلة- نجد صفة النخبة ومشتقاتها، التي تحصر فئة عن بقية المجتمع، موضع تشنيع وانتقاص. فتسمع عن (المثقفين النخبويين) أو (ثقافة البرج العاجي) في معنى تهمة موجَّهة -في أحيان- إلى ذوي الهموم المترفة، أو الهموم الفردية، وإلى الثقافة ذات الصبغة الرومانسية بما يطغى عليها من أحلام وخيال وحنين وغزل وشجن وورود وعطور. لكن هذه التهمة لا يمكن أن نفهم منها أنهم بلا هموم عامة، فمن يقول إن الأحلام والأوهام والغزل والشجن والغنائية الفردية ليست حاجة عميقة في كل نفس؟! وليست شأناً عاماً يشبه الحاجة إلى الرغيف ويواكب طور الخروج من قبضة الوجود الإقطاعي أو القَبَلي أو الثيوقراطي إلى مستويات أرفع إنسانياً ومدنياً. وفي أحيان تكون تهمة العزلة والرفعة العاجية والنخبوية للمشتغلين بالمناهج الشكلانية في مقابل الواقعية والمناهج التاريخية وإيديولوجيا الالتزام لكننا إذا ما فككنا المركزية في الواقع والتاريخ والإيديولوجيا فلن تنجو هذه الأخيرة من تهمة الانحصار والعزلة والتمركز في الوهم اللفظي الذي يجعلها معزولة عن الحقيقة بمعنى ما.
الرياض