كلمة «الإصلاح» مفردة قرآنية مألوفة فنبيُّ الله هود عليه السلام يقول لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).. بيْد أنّ مصطلح «الإصلاحيين» رغم تعدُّدية استخدامه أصبح يُطلق في الغالب على الجناح الأكثر مرونة في مقابل الجناح الأكثر محافظة. في الاستعمال العربي الإصلاحيون قد يكون نسبة لإصلاحية محمد عبده وما يسمّون برواد النهضة.. ولكن في المجال السياسي بالتحديد محلياً وسعودياً أصبح أقرب إلى وصف الناشطين ثقافياً وفكرياً وحقوقياً فيما يتعلق بالإصلاحات السياسية.. والهم الدستوري.
وإذا كانت التيارات الإسلامية بأجنحتها المحافظة وغير المحافظة.. والتيارات الليبرالية المبتذلة وغير المبتذلة.. فإنّ هذا الجناح أو التيار الإصلاحي.. كان أقرب إلى الاهتمام بحقوق الناس ولذلك يوصف أحياناً بالحقوقي.. بيْد أنّ الاغتراب قد يطرأ على علاقته مع هذا المجتمع نفسه الذي يبذل جهده للدفاع عنه وحماية حقوقه.
حقوق الناس.. السياسية تعني فيما تعني خياراتهم القيمية.. واتجاهاتهم وحريتهم في الخيارات الثقافية المحافظة وغيرها.. وتعني أيضاً مبادئهم الأخلاقية.. والأهم من كل هذا.. أولوياتهم هم.. أولويات الناس.. قضاياهم.. لقمة عيشهم.. أشغالهم اليومية ونسمات الحرية التي يتنفسونها مباشرة دون واسطة تأويل.. وخبزهم.. لذلك كانت قضية «الفقر» و «السكن».. و»الخبز».. و»الغلاء».. و»زيادة الراتب».. و»الوظيفة» ومشاكل البطالة.. للكثير من أفراد الناس أهم بكثير من مفردات الإصلاح السياسي الجذرية التي قد تكون أكثر عظمةً وتأثيراً، بيْد أنّ عموم الناس لا يرون أنها تلامس حياتهم المباشرة.. ولذلك فإنّ الطريق إلى الإصلاح هو عبر التحدث بلغة الناس التي يفهمون.. ولذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه «حدِّثوا الناس بما يعرفون».. وهذا هو ما يعرفه الناس.. ولن تتكثف أولويات الناس إلاّ عبر الحديث عما يشغلهم ويلامس ظروفهم.. وحياتهم الخاصة..
الاغتراب الإصلاحي يبدأ حينما يعتقد بعض المهتمين بأنّ عدم معرفة بعض الناس بقضايا السلطات.. واستقلال القضاء.. وغيرها.. مشكلة خاصة بالمجتمع المحلي.. ليفرض على الناس أولوياته السياسية.. على حين أنّ أكثر المجتمعات المدنية الحديثة المتقدمة تحمل هذه الصفة في أنّ أولويات أغلب الناس تنطلق من مشاكلهم الخاصة وأعباء حياتهم اليومية.. وأنّ الكثير من الناس لا يعرف شيئاً عن النظام الديمقراطي فلسفياً.. ولا فصل السلطات.. ولا آلية الضوابط والتوازنات أو الرقابة المدنية أو غيرها..
لن يحتاج الإصلاحي أن يتعلل بما يدعيه «جهل المجتمع» وعدم وعيه بقضايا الإصلاح، فهي حجة شبيهة للقول بأنّ المجتمع غير جاهز.. بل ربما لن يكون جاهزاً على الإطلاق للمشاركة السياسية.. ولن يكون «الإصلاحي» كذلك إذا كانت تلك الحقوق والحريات التي يدعمها تنطبق فقط على شرائح وتيارات يتفهّمها ويجد نفسه فيها على حين يحرم منها شرائح أخرى.. فالحقوق لا إيدلوجية لها.. ولا تيار.. ولا ينبغي أن يكون لها ذلك.
في تدوينة متميزة.. قدم المدوّن الأستاذ منصور القحطاني.. نقداً لأصدقائه الإصلاحيين وصف تلك الحالة ب «غربة الإصلاحيين».. مكتشفاً أنّ هذا الاغتراب الذي عانت منه تيارات مختلفة.. حاضر عند الإصلاحيين فهناك وهم «إصلاحي» يرى أنّ الغربة التي يعاني منها التيار الإصلاحي والمسافة المرتبكة بين خطابه وأولوياته.. وبين أولويات الشارع وهمومه.. تعود للجهل السياسي وقلة الوعي.. وهذا «خطأ قاتل واتكالية غير مبررة» - حسب تعبيره - فالهم السياسي همٌّ نخبوي صرف حتى في تلك المجتمعات المتقدمة ديمقراطياً ومدنياً.. بيْد أنّ المواطن العادي والشارع.. مهمومٌ في الغالب بالهم المعيشي والاقتصادي.. والشارع سيتحدث عن العمل السياسي فقط حين يجد أن الفساد الاقتصادي والاحتكار والإقطاع.. تقف خلفه منظومة سياسية.. وفي هذا الجهد التوعوي يرى القحطاني أنّ الخطاب الإصلاحي لم ينجح بعد في ربط الهم السياسي وأولويات الإصلاح.. بالهم الاقتصادي.. وأولويات المعيشة.. ويتحسّر على بقاء الخطاب الإصلاحي نخبوياً في الوقت الذي ينتقد الإصلاحيون الناس وعدم فهمهم لهم!
مجدداً.. الخطاب الذي يريد أن يكون حاضراً بين الناس عليه أن لا يتحدث فوقهم.. بل أن يعيش بينهم.. أن يستمع إليهم جيداً قبل أن يحاضر عليهم.. أن ينصت لأغانيهم.. قبل أن يرتل شيئاً من أغانيه.. وأن يتحدث لغتهم التي يفهمون.. ومصطلحاتهم التي يعرفون.. وهمومهم التي يشكون.. وأولوياتهم التي يريدون.. كما قال علي رضي الله عنه «حدثوا الناس بما يعرفون».
جدة