مسمّيات وتوصيفات (ما يحدث) في سوريّة، أو (ما حدث) في البحرين بين (أزمة، انتفاضة، ثورة، شغب، عصيان، مؤامرة، تدخّل إيراني، تدخّل خليجي، حرب أهليّة) تختلف باختلاف المُصدّر للموقف ممّا يعقّد مفهومي الواقع والحقيقة ويجعلهما محض أداةٍ نسبيّة ونفعيّة، إذ -طبيعيّاً - أنّ يدّعي صاحب الموقف ملكيّته للحقيقة وتمثيله للواقع مستعيناً بقدرات الإعلام على اختلاق وإحلال وقائع محلّ أخرى، وإخراج تمثيلات -أفلاماً وثائقيّة مُمَنْتجة- غايةً في تثبيت (واقع فضائيّ)، ومحو وطمس (واقع أرضي). وهذا ما يمارسه الأفرقاء في أيّ نزاعٍ، وليس من غرابة، لطالما يتطلّب الوعي أن تتقبّلها على أنّها جزء من الصورة (واقع الفضاء)، وليست جزءاً من الأصل (واقع الأرض)؛ فالمعضلة أنّ الأصل لا يُشاع تداولاً عبر كينوته، إنّه دائماً بحاجة إلى شواهد وممثّلات. فما يُذيعه الإعلام هو ممثّل سياسيّ للحقيقة المصنّعة وليس الحقيقة؛ لذلك فالشكّ فيه قيمة، حين يكون وجود الحقيقة عصيّاً على الإدراك. والسؤال هنا: هل الإدراك بأنّ الواقع لا يظهر إلا عبر وسيطٍ هو محرَّض ضروريٌّ على اختلاق واقع بديل؟.. إنّ هذا التساؤل لا يستثني أحداً من هذه الوسائل السياسية في إدارة الأزمات والمنازعات، فإنّ الخلط بين مفاهيم الأخلاق والديانات وبين النزاعات السياسيّة يؤخّر في فهم الأزمة وكيفيّة إدارتها، ويخدش من قيم الأخلاق والديانات. فأيّهما يمثّل مصداقيّةً لأذهان الناس (واقع الفضاء: الناقل) في القنوات والنت، أم (واقع الأرض) المنقول عنه؛ وإلى أيّ مدى حجم التطابق والتفاوت بين الواقعين الأرضي والفضائي؟ وكيف السبيل إلى بلوغ (الواقع الأرضي)؟ والواقع أخرس، وليس له شخصيّة مستقلّة، فما يقدر أن يحدّث عن نفسه!.
كلّما تشظّى الواقع مسروداً في أحداثه بمرويّات متضاربة كلّما تناقصت مصداقيّة الوسطاء الناقلين، فغاية الأطراف المتنازعة وأنصارهم ليس الانتصار (للواقع على الأرض)، بل الانتصار لما يجب أن يكون عليه الواقع، هكذا يتلاشى (ما هو قائم) من منطق الأفرقاء، ويغدو المتخيّل والمتسيّس هو البديل الذي يُبنى عليه؛ فكيف يتحقّق ثبوت الحقيقة ومعاينة الواقع على أرضه في ممانعة محاولات الإعلام لإحلال واقع فضائيّ وحقيقة مصطنعة؟! المسألة ليست مستحيلة، وإن كانت تحتاج لزاماً إلى: (معول الشكّ، الجمع بين الروايات، قراءة الدلالات المحجوبة، معرفة مصالح الأفرقاء).
الإعلام ناقلُ الواقع. وكلمة (الواقع-الختم) تأتي للمصادقة على الحقيقة المصنّعة، فإنّ وجود (الواقع على الأرض) مشروطٌ بوجود ناقله، كأنه بلا وجود خارج شواهده وممثّلاته، فإلى أي مدى يمكن أن يتخلّص الناقل من الغائيّة والأجندات السياسيّة؟ إلى أي مدى نحن ننساق (للفضاء)، ونفارق (الأرض)؟
**
المواقف المتضاربة من الأحداث في سوريّة أو في البحرين مشروعة ضمن الممكن السياسيّ، بينما هي جرمٌ أخلاقيٌّ في العُرْف الإنساني يتّهم الأفرقاء بعضهم بعضاً بتحمّل مسؤوليّتاته. وهذه المواقف إن لم تكن سياسيّةً مبنيّة على المصالح الخاصّة بمُصدّرها إنما تتورّط بتأويلات ليست بمنأى عن الظنون الشعبيّة الطاغية لدى الأفرقاء وأنصارهم، مع خصوصيّة عدم تطابق الأزمتين. وهذا التأويل (الشعبيّ/الظنّي، والذي نزعم أو نأمل أنّه بعيدٌ عن صانعي السياسة) تستدعيه الطائفيّة محرّكاً، من شأنه أن يحوّل الصراع من ممكن الحل إلى مستحيل الحل، من صراعٍ سياسيٍّ مرتبطٍ بدواعي ومعطيات أزمته إلى صراعٍ ليس له معطيات ماديّة، تستغلّه نزعة طائفيّة لا تُبالي بمنطق المصالح، مثلما ضغوطات العامّة غير المفهومة التي (قد) تؤثّر على قرارات الخاصّة وتحبط من قيمتها ومرونتها. هكذا تخرج الأزمة من سياقها الطبيعيّ في المنازعات المعلومة إلى سياق آخر من المنازعات المفتوحة، نظراً لارتباطاتها بما يتجاوز الحدود الممكنة، وما يتجاوز ممكن الواقع الأرضي، ليسقط في أوهام الناطق التاريخي الطائفيّ والواقع الفضائي المسيّس.
فأيّ نزاع سياسيٍّ قدره أن يُحسم على أرض الواقع؛ ومن هنا تكمن الأهميّة السياسيّة التحضيريّة لإيجاد واقع بديل يساندها في النزاع. ولأنّ دواعي الأزمات غالباً ما يمكن رصدها وبالتالي إمكان تسويتها، على عكس النزاع الطائفي الذي يستبدل معطيات الواقع والمصالح، بمعطيات بديلة وهميّة جامدة تخصّ الطائفة؛ فكيف يستوي إلحاقها بالعقل السياسي، وكيف له إدارة أزمة بهكذا معطيات.
فلئن كان التفاوضُ على الحاضر مُمكناً، والتباحث على المستقبل محتملا؛ فإنّ التفاوض على الماضي وهمٌ مخادع يُفاقم الخلافات. وبالنظر إلى عناصر التفاوض: (أطراف النزاع، المادة المتنازع عليها، الوسطاء، الظرفيّة، الموازين). فأين هي المادة التفاوضيّة والظرفيّة في الجدل السياسيّ الطائفيّ، مثلاً: (السنيّ الشيعيّ)؟ كيف يكون التفاوض اليوم على (مقتل عثمان، أو مقتل الحسين)؟.
إن دواعي النزاعات الطائفيّة غامضة ومرتبطة بأوهام تاريخيّة (وإن تكن ذات قيمة، فنحن هنا لا نطعن بها أو نثبّتها) فلفظة (أوهام) لأنّها مخلوعة من تاريخيتها، ومُقحمة على أنّها من مكوّنات الصراع السياسيّ المعاصر، وهذا عائقٌ وسدٌّ يُباعدُ ولا يُقارب.
**
وفي تمثيل آخر للتفاوض؛ ما هي عناصر الممكن السياسي اللازمة لطاولة التفاوض إن شئنا التقارب مع إيران؟ ما هي مادة التفاوض التي قد تفضي إلى نتائج إيجابيّة؟ فكلّما تقترب مادة التفاوض من حدود (ممكن الواقع الأرضي) كان التفاوض ناجحاً، وكلما كانت المادة منزوعة من الحاضر ومتأثّرة بالاشتقاق التاريخي الطائفيّ (كمظلوميّة الحسين أو العُقدة الصفويّة) فإنّها تعثّر المفاوضات؛ ونحن لا نتوقّع تفاوضاً سياسيّاً بهكذا سيناريو، فساسة البلدين يدركان مادة المصالح المشتركة والمخاطر؟ لكنّ العوائق فيما يصنعه الإعلام، الكُتّاب، المثقّفون الطائفيّون في تحليلهم للأحداث وقلبها إلى حقائق، وتسليم الساسة للضغوطات المؤدلجة؛ فالأحداث التاريخيّة والوقائع ذات الصوت العالي لا تُفضي إلى تقاربٍ في الطاولات السياسية، حسبكم أنّها وضعت على طاولات البحث العلمي ولم تحقّق تقاربا فكريّا مقبولا، فكيف تكون أداة تقارب بين مرجعيتين سياسيتين، لكلّ منهما أجندتها ومصالحها.
على إيران أن ترى مصالح دول الخليج، أن تستوعب مخاوفهم من سياساتها الخارجيّة التوسّعيّة، تدخّلاتها المتعارضة مع المصالح الوطنية منذ فلسفة تصدير الثورة، وليس انتهاء بالجزر الإمارتيّة المتنازع عليها والأزمة البحرينيّة. وعلى دول الخليج بالمقابل أن ترى مصالح إيران، أن تستوعب المخاطر التي تحيط بها، بعد حربٍ عطّلت مشروعها لعقد من الزمن، ومحاصرتها بقواعد وبوارج أمريكيّة.
فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الذين يحملون (العقدة الصفويّة) و(المظلوميّة الحسينيّة) أن إيران والسعوديّة جارتان طبيعيّتان، وأن معالجة المخاطر لا تتمّ إلا بطاولة سياسيّة عناصرها ومفرداتها مشتقّة من غلبة منطق المصالح والواقع الأرضي وليس من جُبّة التاريخيّة الطائفيّة.
**
إنّ الصراعات الطائفيّة لم ولن تنتهي عبر قنوات تخرج منها، فالطائفيّة لا تعترف بطاولات الحوار؛ فحلول تلك الخلافات أمام حلّين: إمّا (العنف) هو لا يحلّها من جذورها، بل يؤجّلها، أو (الطاولات السياسيّة) التي تعتمد لغة المصالح الخاصّة، التي بقليل من البصيرة يدرك المرء فيها قيمة وجوده، قيمة أن يدافع بالحوار عن مصالح حاضره ومستقبله المتمثّلة (بالواقع الأرضي)، بدلاً من (الواقع الفضائي) ومن وهميّة المسائل التاريخيّة التي تُعْمِي المرء وتسرق منه حاضره. هكذا تظلّ جدليّة الواقع الأخرس على الأرض، والناطق التاريخي في الواقع الفضائي إشكاليّة ليس على مستوى الفكر وقراءة ما هو قائم وما هو متخيّل، إنّما إشكاليّة تفرض قوّتها وقيمة حضورها على طاولات التفاوض السياسي أيضاً.
aalodah@hotmail.com
أمريكا