إننا لسنا جيدين كما نعتقد. ولا ملائكيين كما نروّج لأنفسنا. وإن التقى والتواضع والخيرية هي أوّل ما نحتاج إليه، بالأخص عند خصوماتنا، أو في سياقات الاعتراض.
وفي خضم السجالات الجارية، ووسط سيل الأنشطة الإلكترونية، أو عبر الفضاء، يتصدر طليعة المشهد رموز ينافحون عن الصالح العام -يقولون-، ويرمون -بحسبهم- لصيانة المجتمع، بيد أنهم لا يهدوننا سوى التوتر والرعب والخراب. ورغم شعاراتهم البراقة، إلا أنهم بارعون في احتكار الحقيقة، والفجور في الخصومة، وتشويه الأعداء من أبناء الوطن الواحد. وإذ ذاك، يرتكبون قمعا أشد من القمع الذي يتهمون السياسي بأنه يمارسه وما جاءوا سوى لإصلاحه.
وليت أمراء حروب الفكر، وتجار مشاريع التغيير، يخوضون معاركهم بالأصالة عن أنفسهم وحسب، لكن الجناية تكمن في حشدهم للبسطاء، باسم الصلاح والإرشاد والتهذيب. فعسكروا البلاد بعراكهم، وأرهقوا الناس بتصدير مشاكلهم، ولوثوا الأجواء بمشاعرهم السالبة. إن الذين لا يتقنون عدا لغة النقد، ولا يبرزون إلا في أوقات الأزمات، ولا تلتقط أعينهم سوى القذى، ولا يجيدون أمرا وإنما الضرب تحت الحزام، ما هم إلا انتهازيون بجدارة، ومشاريع محتملة جدا للبطش والسوء والانتفاع. ووسط كل هذا العراك الشرس، تبدو الأجندة وحظ النفس والأيديولوجيا حاضرة بكل جلاء. أما الغائب الأكبر فهي الأخلاق، والضحية القصوى هم الناس، والمنسي الأعظم هو الوطن.
إن النقد والنواح والتضيم الفاجر - «إذا خاصم فجر»- هي أيسر الدروب وأشدها ضمانة لتراكم (الأتباع). ولقد أضحى الانتقاد - لا سيما الممعن في بكائيته - موضة العصر. وبات التسلق على هموم الناس مطية الطامحين. وغدا اختطاف أصوات ذوي الحاجات ديدن كل من يستطيع. فأنى لنا الطمأنينة حيال أناس يقترفون منكر القول، وينتقون وفقا لأهوائهم، ويحبط الزلل اليسير في ميزانهم بحار المعروف.
لقد زخر التاريخ بالنقاد -المهنة الأيسر والألذ والأضمن لتزكية النفس-، بيد أن الذين جعلوا العالم مكانا أفضل للعيش فيه ليسوا هم المنتقدين، وإنما أناس آخرون أنتجوا الحلول، وخدموا المجتمعات بأفعالهم الربانية -أيا كانوا-، وبادرت قلوبهم الكبيرة بصنع الخير.
إن المفرطين في مثاليتهم نحو العالم، والآخذين على عواتقهم إصلاح الدنيا، وأصحاب مشاريع التغيير التي غاية في الكمال، هم أكثر الناس عبئا على الحياة، وفقا لديباك تشابرا. وطيلة تاريخها، لم تتأذ البشرية من أحد مثل المخلصين. وإن الذين أوقدوا سعير الحروب، وسفكوا دماء الملايين، ودمروا مناكب الأرض، ما كانت تقودهم إلا النوايا الحسنة.
إن من أشد أعداء الوطن ثلاثة: الأناني، والانتهازي، وناوي الخير فاعل الشر. وحينما نقرأ أو نسمع للكثيرين، نخال أنفسنا إزاء ملائكة تسعى بيننا، بيد أن الواقع الفاحص يحكي بكل سخرية أننا لسنا جيدون كما نعتقد، ولا ملائكيون كما نروّج لأنفسنا.
ts1428@hotmail.com
بريطانيا