تحدثنا في الحلقات الماضية عن دور الصورة الصوتية، وأنها تعتمد اعتمادا كاملا على الخيال، حيث تبدأ بالسماع عن طريق الأذن، ثم تتحول بسرعة إلى الدماغ فيترجمها إلى معنى مقترن بالذاكرة، وهناك جانب آخر يتعلق بالثقافة الخاصة، فهناك نصوص عندما تقرأها تأخذك إلى أماكن وأشخاص ومناظركأنك تراها مباشرة، وهناك أشخاص عندما يتحدثون عن شيء غائب يصفونه فكأنك تراه رؤيا العين، وهذه قدرة تعود إلى موهبة الكاتب والمتحدث، فكثير من الروايات تأخذ متلقيها على أماكن وأشخاص ورد ذكرهم في النص، فكأنك تعيش معهم، والعكس صحيح في كثير من النصوص الجامدة التي عجزكاتبها عن إيصالها إلى المتلقي، وكلما كان النص واضحاً يتجول بمتلقيه معه في كل مكان كان صالحا للتجسيد على الورق ثم على المسرح وفي النص السينمائي، ومع تطور الرؤية الفنية أخذ بعض الكتاب والمهنيين بالحوارات والسيناريوهات بتحويلها إلى جسد ناطق على المسرح بطريقة التمثيل، حيث تعتمد على الحركة، وكانت بداياتها في المسرح الحر، حيث حولت النصوص السردية إلى صور متحركة، وقد يحصل في بعضها تغيير، حسب متطلبات المواقف (العامة والخاصة)، وكان قبل هذا الطورمن أطوار التفاعل بين النص السردي ممثلاً على المسرح، وبين النصوص المكتوبة خصيصاً للمسرح، جرى التمثيل الصوتي للنصوص على الهواء من المذياع، فتجسدت الصورة الذهنية في مسلسلات الإذاعة، وكان الخوف من القضاء على قراءة النص السردي الذي تغيرت لغته من الفصيح إلى العامي في بعض المسلسلات والمسرحيات واكتفى المستمع بالسماع بدل القراءة، لكن حدث العكس لهذا التصور، فقد زاد الإقبال على قراءة النصوص وتحليلها من قبل النقاد، إضافة على الإشهار بصدورها وقراءتها(16) وخاصة ما حصل منها على إخراج احترافي، ومن اشترك فيها من النجوم، ووقت إذاعتها... وغير ذلك من العوامل المساعدة. وقد تحدث الباحثون في شئون الإعلام منذ سبعينيات القرن الماضي وأكدوا على طغيان الصورة البصرية على الصورة الذهنية بظهور جهاز التلفاز الذي أنتج الصورة المتحركة التي شكلت ذهنية جديدة لم تستطع معها إلغاء الصورة الذهنية، لكنها استطاعت أن تحرف مسارها إلى صالح المنتج، بل إن الباحث الفرنسي (ألن دوبريه) أكد على أن هذه الصور تسبب العمى، ويقصد عمى البصيرة، أي الجهل(17).
وتعيدنا هذه المقولات إلى ماكنا نتغنى به من شعر في مراحل شبابنا المبكرة، عندما جاء تاجر بمجموعة من خمر النساء السوداء- بضم الخاء- إلى المدينة المنورة ليبعها، فلم تشر، فشكا حاله إلى أحد الشعراء،فطمأنه بأنه سيقول شعرا في الخمار الأسود وستباع جميعها، فقال الشاعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
لما وقفت له باب المسجد
والقصيدة منسوبة للشاعر الأموي المعروف، مسكين الدارمي، وقد أوردناها للدليل على قدرة الدعاية الإعلامية مقرونة بالصورة، وبديلها في زماننا هذا الدعاية المصورة بصريا، فقد أجرينا دراسة ميدانية عن الدعاية مقرونة بالنص الأدبي التاريخي، على مسلسلات رمضان، ومنها: باب الحارة، وربيع قرطبة، فكانت نسبة الدعاية في الساعة25%، وقد تتجاوز هذا الحد في نهاية الشهر.
وفي زمن الفضائيات المغلفة للفضاء لم يعد النص الأدبي الجاد مهما بقدر ما يتحكم المعلن والمنتج في البث الفضائي، ونتج عن ذلك مزيد من التهريج في القنوات التجارية التي تسعى إلى الربح، ولا لوم عليها في ذلك، ويغالط نفسه من يقول: إن هناك إعلام محايد، ولكن هناك حدود معينة وقنوات رسمية محافظة - إلى حد ما (إذا استثنينا المجال السياسي، ونظام الدولة) وقد آمن القائمون على تلك القنوات بالمثل الإعلامي القائل ( الصورة أصدق من ألف كلمة) ومنهم من يؤمن بالمقولة المضادة للعقل (اكذب... اكذب حتى تصدق)، ونحن نقول: إن الزمن اليوم تجاوز هذه المقولات، فالذي يكذب لن يصدق عند طبقة المثقفين والعاملين في هذا الحقل، فمن يكذب لن يصدق، والذي يكشف كذبه إعلام مثله، ولا ننكر أن الصورة في الإعلام تلعب دورها إلى الآن، ولكن ليس بنسبة عالية كما كانت في السابق، فمن يعيش الحدث لا يجد ما تبالغ فيه وسيلة البث التي تقوم على حيز ضيق من الحدث الكبير نفسه، والادعاء الذي تدعيه بعض القنوات بأنها صنعت من الحدث شيئا يفوق من قام بالحدث، وهذا أمرفيه كثير من المغالطات، ويرى بعض الباحثين في ثقافة الصورة إن هذه الأيقونات قد أفضت بالمشاهد إلى ثقافة الأمية، لكنها منكرة عند طبقة المثقفين المتحررين من الأيديولوجية (18)، وقد سلمنا من قبل بأن اللغة تسند الصورة، فكل منهما عون للآخر في إيصال الرسالة بطريقة منظمة لاتخلو من مونتاج معين يخدم الهدف، ولنا حديث في الحلقة القادمة عن هذا الموضوع.
الرياض