لا شك أننا لسنا بمعزل عن العالم وعن كل جديد فيه ولسنا أقل قدرة من أن نتعامل بكل جديد في كل جوانب الحياة بأخذ ما يناسب ويلاءم ويتوافق مع وقعنا العام (الانتماء دينًا والأصالة تراثًا والتلاحم مجتمعيًا) بما نمتلكه من عقول مدركة لأهمية التطوير والتحديث وكيفية توظيفه ومزجه مع ما سبق الإشارة إليه في ثوابتنا.
وإذا اعتبرنا أن الفن التشكيلي جزءٌ من ثقافة الوطن مع ما نتحفظ عليه من جوانب القصور وتقدير جوانب النجاح التي يمثلها جهود الكثير من التشكيليين، إن كانوا رواد بدايات أو أصحاب أساليب أو من النخبة ولو قليلة من الجيل الجديد، فإن علينا معرفة الفارق بين المفهوم العام للفن وبين ما طرأ من تفعيل وتأويل وإلباسه ما لا يحتمل باسم الفنون الحديثة والمعاصرة مع اختلاف التسمية (المعاصرة والحداثة)، ما يجعلنا في حاجة ماسة لأنَّ نجعل منهما مزيجًا صالحًا للجسد الثقافي المحلي الذي يصعب التعامل معه إلا بما هو منطقي ومقنع بعيد عن التهويش والابتذال الذي يمارس في كثير من الأعمال الفنية حاليًا، ومع أن الفلاسفة والنقاد والمنظرين لم يجدوا تفسيرًا واضحًا ومقنعًا مع ما أجمعوا عليه أن الفن تعبيرٌ عن المشاعر وتمثيلٌ للجمال عبر انفعالات تنبع من ردود فعل لكل ما تقع عليه العين ويتأثر به الوجدان ويحدد العقل جوانب الجمال فيه، ويحال إلى خانة العقل الباطني ليتسنى للفنان إعادته، إما بالمطابقة والمشابهة للحدث أو الشكل المرئي أو بمزجه بالخيال، البعض من تلك الصور تمتزج أحيانًا بالعاطفة وبالأحاسيس الميالة للسلام والحب والجمال وأحيانًا تتعامل مع تكوين الفنان النفسي ونظرته للحياة مما يؤثر على تنفيذه للعمل بالميل لمواقف مضادة لا تخلو من القسوة والانتقاد لواقعه ومجتمعه أو إفرازات لحالة ما، يعيشها وتؤرق مضجعه وقد تظهر الحياة أمامه بمنظور سوداوي.. ولنا في تاريخ الفن الكثير من التجارب.
من هنا يمكن لنا أن نقترب أكثر للمتكئات التي يقف عليه الفن وأنه لا يمكن أن يجد أي مفسر أو باحث مفهومًا واضحًا أو مقنعًا لتلك الحالة أو الإيحاء قبل أن يتحول إلى شكل ملموس ومرئي ينطلق الناقد أو المحلل إلى تفسيره وتأويله، محاولاً الاقتراب مما يعبّر عنه الشكل بما استشفه من بعض تفسيراته من المبدع ذاته وإن اختلفت مستويات التنفيذ وأساليبه.
الوسيلة تبرر الغاية
تلك الإشارة أو التلميح حول ما بدأت تتحرك نحوه الساحة التشكيلية وبشكل قد يشكل ظاهرة غريبة نتيجة سرعة انتشارها والمتمثلة في اتجاه الكثير من بالساحة ممن يمكن وصفهم بالفنانين أو بالتشكيليين أو الهواة وليس المواهب إلى جعل الوسائط المتمثلة في الوسيلة للتعبير، مبررًا للغاية مع أن مثل هذا التعامل قد يكشف أن هناك من يرى في تشكيل أو تركيب أو جمع أي خامة من الخامات المستهلكة أو ما يمكن تصنيعه يسبق الفكرة اعتمادًا على ما يظهر من ذلك التكوين التلقائي أو المعتمد على الصدفة، ليأتي دور التخيل فيما يمكن تسميته أو إطلاق الوصف عليه.
وأعود هنا للتصنيف السابق في سياق هذا الطرح وهو ما نسميهم بالفنانين، وأعني من لهم القدرة على توظيف الوسائط أو الخامات بناء على فكرة مسبقة ذات أبعاد تحمل قضية.. اجتماعية أو سياسية أو جمالية، مع ما قد تخفيه من معنى لا يحرص الفنان على تفسيره تحفظًا وحفاظًا على إبداعه عند كشف معناه أو خوفًا من أن يتبعه شيء من التأنيب يصل إلى الإيقاف، أما الوصف الآخر بالتشكيليين فأعني أنصاف من بالساحة فلا هم حققوا الصفة التي يستحقونها كفنانين ولا هم بقوا على هوايتهم لممارسة التلوين وتشكيل الخامات كما يفعل بها في دروس التربية الفنية، أما الهواة وهم الأكثرية فلا حاجة لتفسيرها للقارئ العارف.
مفهوم الفن وفن المفاهيمية لتحقيق العالمية
لا نختلف أو نغض الطرف أو نتجاهل ما يمكن أن ينتج عن الفنان من إبداع، بأي وسيلة أو طريقة أو خامة، بقدر ما نقدره ونحترمه كونه تعبيرًا وجدانيًا لا يمكن أن يعترض عليه مشاهد عارف وملم بالفنون ومانحًا للمبدع حق التعبير، مع الالتزام بالذوق العام واحترام قيم المجتمع، وهنا يمكن أن نقف عند مربط الفرس بين ما يمكن اعتباره إبداعًا وبين ما يقدم لمجرد أن يجعل منه من قام بتنفيذه مطية أو بوابة للحضور الإعلامي أو لإشباع رغبة ما، ومع أن ليس بين هذا وذاك إلا مساحة قصيرة المدى، تصبح أحيانًا ضبابية.. أو رمادية، لا يبرز فيها أي من اللونين، لكن المتمكن والخبير والمتابع والراصد لكيفية تشكل الفنان بناء على مسيرة وخطوات سابقة، يمكن أن يستدل بها راصد الأثر على المسير، سيكشف حقيقة من أمامه ومن أي الأطراف أو الفئات يكون، فالإبداع لا يأتي مصادفة أو مجرد مغامرة يرى فيها البعض سهولة عند مشاهدتهم لعمل تجريدي، أو عبث حينما يرون تشكيل مخلفات صناعية.. أو بيئية، أن بإمكان أي فرد التعامل معها، كما نشاهد تأثير أغصان الشجر على جبين الأرض أو أطراف خصلات سعف النخيل على سطح جدار طيني عندما تتحرك بتأثير الرياح وتحفر فيها أخاديد وإيقاعات غائرة وبارزة يمكن لنا عنونتها أو تخيل ما ظهر فيها من إيحاءات، أو ما أنتجته عوامل التعرية من الرياح على الجبال والرمال، لكن الأمر يتعلق بالإنسان الذي يحمل عقلاً ووجدانًا ويكتسب ثقافة يعي بهم جميعًا ما يقدم أو بأي وسيلة يعبر..
هذا التجاوز في التعبير والخروج من مفهوم الفن وعلاقته بالآخر التي خرج بها البعض في كيفية إيجاد جوامع مشتركة بينه وبين المتلقي باحتفاظه بخصوصية فكرته وبين تقديره لقدرات المتلقي على قبولها ليشترك الاثنان تفاعلاً بما يحمله المنتج الإبداعي دفعتهم لركوب موجة لا يعون السباحة فيها سعيًا لإثبات الذات منطلقين من نظرية الفن للفن أو الفن للذات تجاهل الكثير منهم قيمة العمل وذائقة المتلقي بإحساس يتمثل في توحدهم بفهم ما يعنيه إنتاجهم دون مراعاة لفهم الآخر، غلفوا بعض أعمالهم بتسميات خادعة محاولين بها تجاوز مقت أو تندر أو تجاهل الآخر لهذا العمل وتلك الفكرة، يتبعها بحث عن رضا جمهور آخر وعقول أخرى وجدت في هؤلاء سبيل لتمرير ما لا يقبله عاقل إلى مرحلة إحداث اتجاه معاكس يراد منه إلغاء الهوية والدخول في عولمة لم يُعدُّ لها موقع أو مكانة أو هدف..
سبل تعبير دون خطوط رجعه مآلها السقوط
لا زالت الساحة التشكيلية المحلية في حالة تأرجح، بين ما وصلت إليه من تحرك جميل وتنقل من مرحلة إلى أخرى بهدوء، شاركهم فيها المجتمع، وبدأت بوادر القانعة واحترام هذا الفن تأخذ مساحتها في الساحة، وأخذ الفن دوره للمنافسة وحقق النتائج الكبيرة، بإعداد متميزة من التشكيليين يعون أهمية التدرج، دون قفز لمجرد الحضور والإشادة، التي قد لا يجد أصحابها خط رجعة، عندما يتخلى عنهم من صنع لهم ريموت توجيههم، أو أنهم لن يجدوا مخرجًا من القالب الذي أحيط بهم وتشكلوا فيه، ولنا في كثير من المشاهد والمعارض والمشاركات مثل هذا التوجه الذي نقبله في حال اشتماله على ما هو مقنع مسبوق بتجربة عميقة وثقافة عالية ودراية بأبعاده فكريًا وفلسفيًا، تستجيب لإيحاءات الفنان تستفز ملكاته ويعيد صياغتها في قوالب مرتبة تبرز أحيانًا بتلقائية تحت مظلة العقل الذي يجمع الإبداع والتذوق كمحورين رئيسيين، ينطلق بهما الفنان في رحلة مع ذاته مادًا بها جسرًا بين الواقع والخيال والحلم، لينقلها إلى عالم الحقيقية يحمل بها رسالة تنقل واقعنا دينيًا واجتماعيًا وثقافيًا وارثًا حضاريًا، لئلا تكون النتيجة عكسية وتؤخذ كاعتراف مغتصب.
خلط بين بالقدرة وبين ضربة الحظ
العاقل من يردد جملة (رحم الله امرئ عرف قدر نفسه) ويستحضرها عند الدخول في مجال لا يفقه فيه مستسهلاً أمره، أو يرى أنه قادر عليه دون وعي بما يجب أن تكون عليه تلك القدرة، اعتمادًا على الكثير من الأسس والشروط منها المتعلق بالجانب الذهني، وآخر بجانب المكتسبات التي تنتج عن الخبرات، ومن المؤسف أن نجد الساحة وقد غصت بالكثير ممن يرون في المجال التشكيلي سهولة في التعامل وفرصة للمشاركة وكثير ما قيل عمّا ينتجه هؤلاء بالعبث أو (الشخبطة) مع ما يقال عن الأعمال الحديثة من أنها ضرب من الجنون وأن أصحابها هم من يتمتعون بها، ويرون فيها تعبير عن عقد نفسية إلى آخر الصور التي شكلتها تلك الأعمال في ذهن المتلقي، وعند النظر إلى الكثير منها نجد أن ما قيل يطابق الحقيقة فهناك من قدم أعمالاً لا يجدون لها تفسيرًا فيلجئون إلى عبارة (يترك التفسير للمشاهد) وكأنهم بذلك منحوا المشاهد تكريمًا وفرصة ليعبر ويراها بالشكل الذي يتوافق معه، وهذا الدليل القاطع على أن هؤلاء لم يكن لديهم لا القدرة الذهنية فكرًا، ولا الخبرات السابقة تقنيًا، وإنما دلفوا لعالم ومدن لا يحملون لها خرائط وبحار لا يملكون أدوات العوم فيها.
monif@hotmail.com