يرمي هذا المقال إلى عرض لأزمة الإنسان المعاصر على الأخص في الدول الغربية وتحليل مقولاته التي يزعم بها الخلاص وينشد بها الطمأنينة والسلام الذاتي، حيث تتبنى أفكار معظم الفلاسفة والمثقفين في الغرب الآن ترويج أفكار ما بعد الحداثة التي تنادي بمحو الذاكرة وتشئ الإنسان وتمركزه حول العالم الطبيعي والمادي باعتباره الثابت الوحيد في الوجود، ومن جانب آخر هناك أصوات أخرى في الغرب تنادي بشحن الأجواء وتسييد نمط ثقافي معادٍ للآخر الديني والحضاري.. ومن هاتين النظريتين يمكن سبر أغوار العقل الغربي الذي لا يجد ضالته إلا في قضّ مضجعه ومضاجع الآخرين، فالعقل الغربي في رحلة بحثه عن الخلاص وعن السعادة الأبدية، يتبنى الحداثة كإطار معرفي يعبر به إلى بر الأمان ومع تقدم آليات التحديث وطرائق التمدين والتراكم المعرفي المتاخم لها، وجد العقل الغربي ذاته حائرة، فلما لم ير الجنة الموعودة التي طالما بُشر بها، بل وجد حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات الملايين من البشر ووجد مفاهيم فاشية ونازية تكاد أن تعصف بالوجود الإنساني كله، ثم كان فشل المشروع الحداثي في معرفة الإنسان ذاته، هذا الإنسان الذي هرب من الحداثة إلى ما بعد الحداثة بكل أزماتها المعروفة من أزمة للمعنى وأزمة للمجتمع وأزمات في الأسرة.. فالعالم الغربي اليوم يدفع ثمن حداثته وعناده وإصراره على البحث في الطريق الخطأ فهو في إطار معالجته لمشاكل تفتت الأسرة، نجده يبتكر أطراً جديدة مثل الأسرة ذات الأب الواحد أو الأم الواحدة أو أسرة من رجلين وامرأة أو امرأتين ورجل، وفي سبيل بحثه عن السعادة التي لم يجدها، نراه يتعامل مع الحياة من منطق مادي أحادي الجانب لا يرى فيها إلا متعاً مادية جسمانية غرائزية، ويرفض تماماً أن يخرج عن شرنقة أسطورة (الطبيعة - المادة) فالفكر الدارويني الذي شكّل الإطار المعرفي لهذا العقل جعله يرفض تماماً كل مقولات التجاوز والثنائية سواء كانت تلك الثنائية المادة - الروح أو الطبيعة - الميتافيزيقا أو الإنسان - الآلة وغيرها.. ومن هنا نجد العقل الغربي يضع حداً لشقائه عن طريق وضع نهايته بنفسه، ومن ثم بدأ الحديث عن ما يُسمى «القتل الرحيم «Euthanasia» الذي يعني أن يذهب الفرد إلى أماكن متخصصة «clinics» من أجل أن يأخذ شراباً معيناً ينهي به حياته بعد دقائق قليلة، ثم لا يكل العقل الغربي عن ابتكار وسائل أخرى لتعويض ما فقده من «إنسانيته» وفطرته التي رفضها وتبنى مقولات مادية صراعية وأحدية لا تقبل الجدال، فنجد الحياة العامة في الغرب تخضع للترشيد الشديد (فالعقل الغربي في موروثة الحضاري يحركه ثلاث فلسفات: (الداروينية والهيجلية والفرويدية).. وقد ساهمت تلك الفلسفات في تكوين الخريطة الإدراكية للإنسان الغربي مما أدى إلى اصطدام الإنسان الغربي مع ذاته أولاً ومع عالمه ثانياً ومن أجل التغلب على صراعه مع الذات عمد الإنسان الغربي إلى ابتكار آليات من شأنها أن تقلل من حدة الاحتكاك الداخلي مع الذات، فعمد إلى تشريع وترشيد ما عجز عن إصلاحه فمع انتشار حركة الجنس الحر في منتصف الستينيات من القرن المنصرم وتحوُّل المجتمعات الغربية من الحالة المادية الصلبة إلى الحالة المادية السائلة، لا نجد فلاسفة الغرب يتوقفون لمراجعة أفكارهم وتقييم أخطائهم، بل نجدهم ينادون بأن كل شيء مرجعية ذاته وبنسبية الأخلاق وبسيادة النماذج المنفصلة عن القيمة.. ولعل من الجدير بالذكر أن معظم أزمات العالم الغربي الحديث بدأت من هذا التاريخ، فمشكلات الشذوذ الجنسي وزواج المثليين وتفتت الأسرة ومرض الأيدز وارتفاع نسبة الانتحار وإدمان المخدرات ظهرت منذ هذا التاريخ.. وبسبب انتشار الفلسفات المادية والنفعية ظهرت أزمة المعنى والتي تهدد وجود المجتمعات الأوروبية ذاتها فلم تعد هناك غائية «teleology» لوجود الإنسان ولم يعد هناك هدف يسعى إليه، فالإنسان قد جاء بالصدفة أو أنه خلق وتركه خالقه ليسير وفق قوانين المادة التي هو جزء منها مثله مثل الساعة التي صنعها صاحبها وتركها تعمل بذاتها.
ومن ناحية أخرى تعلو النظريات الغربية التي تقول بحتمية الصدام الحضاري وأن الغرب كثقافة ومنظومة من القيم لا بد لها أن تصطدم بالآخر الحضاري وحيث إن هذا الصدام سيكون ثقافياً بعد سقوط الأيدولوجيا فإن مرتكز هذا الصراع سيكون دينياً بحتاً.
وعلى الرغم من النفي الرسمي من جانب الحكومات الأوروبية لتلك المقولات إلا أنه على الصعيد العملي والحياتي نجد هناك حملة شرسة لاستعداء الآخر الحضاري حتى لو كان هذا الآخر في حالة سبات عميق ووهن حضاري لا يمكنه من الصراع.. ومن الطبيعي أن ترتبط فكرة الصراع الحضاري بالتطور المعرفي في الحضارة الغربية، فمن ناحية نجد مكونات الحضارة الغربية تغذي آليات الصراع وتعتبرها الآلية الوحيدة للسيطرة والهيمنة والبقاء، ومن هنا تجيش الجيوش وتستعمر البلدان.. ومن ناحية أخرى نجد الغرب في رحلة التحول من المادية الصلبة، (التي كانت المفاهيم العلمانية فيها تعتمد على أن الإنسان هو مركز الكون وتقول بضرورة الإنتاج والعمل)، إلى المادية السائلة (التي أزاحت الإنسان من مركزية الكون بل واعتبرته مادة يسير عليه ما يسير على المادة من قوانين الطبيعة، فالإنسان هو مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية لا يختلف في سلوكه عن أي آلة، يمكن فهمه من خلال رده إلى قوانينه الطبيعية - المادية وتقول بسيادة أنماط الاستهلاك)، بحاجة إلى صناعة عدو.. فقد أدت حالة السيولة في الفكر الغربي ما بعد الحداثي إلى ضرب المجتمعات وفقدان الإيمان بالإنسان فقد حوّلته المادية الحديثة إلى مادة استعمالية كما جعلته فلسفة النسبية متوائماً مع كل الأطر التي يعيش فيها وانفصل عن القيمة فلم يعد هناك معيارية أخلاقية ولم يعد هناك خير وشر، بل مصالح ومنفعة وأصبحت أزمة الحضارة وأزمة الهوية وأزمة الانتماء إحدى تجليات الفكر الغربي الحديث.. ومن هنا ظهرت بعض الأصوات التي خشيت على المجتمعات الأوروبية من الذوبان أو الاستسلام للآخر الحضاري، فكان من الحتمي شحن الأجواء وحشد الأفكار التي تشوّه وتُشيطن الآخر، وتنادي بالصراع بين الثقافات حتى تستطيع أن تعيد أو على الأقل أن توقف الروح الانهزامية (المتمركزة حول الذات) والمتشيئة، والتي تهدد بتفكك الحضارة الغربية التي تحمل أسباب فنائها بداخلها.. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا يترك العقل الغربي ذاته لتتقاذفه مقولات العدمية والهدم؟ قد يرجع ذلك إلى غرور العقل الغربي وعنصريته واعتزازه بتراكمه المعرفي ومنجزاته العلمية التي لم يحققها غيره، ففلاسفة الغرب يبحثون عن الصواب في الطريق الخطأ (وكان هذا هو جوهر الحداثة) ولما لم يجدوا ضالتهم في هذا الطريق رفضوا الحق الذي طالما نشدوه «وأصروا واستكبروا استكبارا» (وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة) حيث تدعو إلى الفلسفات الهدمية والعدمية التي تزيح الإنسان وتزيد من سيطرة المادة - الغريزة على عقله وسيكولوجيته، فأصبح الطعام مادة وظيفية وأصبح الجنس حالة استعمالية وتم تشييئ الإنسان، فأصبح الإنسان - الشيء هو مراد تلك الفلسفات وتحطمت الأسرة وانفكت أواصر المجتمع وانعزل عن الآخر وجدانياً واختفت القيم من الحياة العامة وأصبحت السيطرة للإعلام والدولة العلمانية الشاملة.
* * *
مراجع المقال:
- د. عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، دار الشروق القاهرة، 2007 .
- د. فتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق، 2008.
Richard Tarnas. The Passion of the Western Mind: Understanding the Ideas That Have Shaped Our World View. Ballantine Books, 1993.
Samuel Huntington. Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. Touchstone Books, 1998.
essamok@hotmail.com