غلطتنا أننا لم ننصب فخاخاً للسحابة حين عبرت من فوق رؤوسنا المائلة نحو أقدامنا، كأنما كنا نخشى أن نضلَّ طريقنا إلى البئر المعمّقة - المعملقة - العتيقة..
(سحقاً لنا) سنقولها ربما - حتماً - حين تصل بنا خطواتنا إلى ما كنا نهرب من مجرد التفكير فيه. فها هي التقارير من حولنا تقول إننا سنبحث حول أنفسنا طويلاً، وسندور في أماكننا، وسنبحث عمّن يديرنا ويدور من حولنا باحثاً فينا عن آبار أخرى غير تلك الآيلة إلى النضوب أو البهتان. فهل عرفنا الفرق الآن بين قطرة تسقط من سحابة مكشوفة للهواء الطلق وقطرة تُسحب من بئر مكتومة مظلمة؟؟
ستعود السُحبُ الملوّنة بأضواء الحرية مجدداً للعبور من فوق كل الرؤوس والأسطح، وستتبلل الطرقات بتلك القطرات السخية العذبة، وسنغنّي (جانا الهوى جانا) وسننسى كل التقارير.. ثم، في لحظة من لحظات النشوة مع الأغنية سنتذكّر أننا لسنا في أماكننا، وأن أماكننا ليست لنا؛ فلسنا تحت المصبّات التي حلمنا بها في طفولتنا المنهكة فينا، لسنا سعداء.. ولسنا غرباء.. ولسنا شهداء.. ولسنا من أصحاب الأيادي البيض، ولا تلك الملطخة بالدماء.. إننا مجرد حفنة من البشر اجتمعت في دواخلنا الطيبة مع الطمع، والأنفة مع التزلف، فصرنا مزيجاً من الضحايا والطغاة..
بعضنا تفتحت فيه الآن شهوة الحياة، ورغبة المغامرة من أجلها، فبدأ يقول ويقول - وهل يملكُ إلاّ القول؟ - بينما البعض الآخر، وهو الأثقل والأكثر معرفة بالحياة وأيّامها وشهوتها والمغامرة من أجلها، والأكثر احتراماً لصراحة أبي الطيب في قوله (ومَنْ عَرَفَ الأيّامَ معرفتي بها / وبالناسِ، رَوّى رُمْحَهُ غيرَ راحمِ) فهو الآن لا يجيد إلاّ الاسترخاء المؤدلج، والمقاربة المتأملة في الصفقات الرابحة والخاسرة كيف كانت وإلى من ستكون؟ فهل من رمح يستطيع الآن أن يُظهر ويُروّى؟ هل من قماشة تستطيع أن ترفرف فوق عود يشبه الرمح، لتنبئ المارّة أن ثمة من تحتها يقف (عطشان)؟ أنها الفتنة إذاً أن تعلن عن عطشك، ما دمتَ لستَ برمح ولا تمتلك رمحاً ولا تجيد التعامل مع أصحاب الرماح التي لم ولن تشبع من الارتواء؛ فمت عطشاً إذاً. ومن ثم ليس لك إلاّ الاستمتاع بالاستماع إلى بقية أغنية العندليب:
(خلينا كذا على طول ماشيين
ياما رمانا الهوى.. ونعسنا
واللي شبكنا.. يخلصنا).!
هل غلطتنا واحدة، كما قلتُ في مطلع المقالة؟ الواقع أن غلطاتنا أقلّ من واحدة، ذلك لأننا لم نفعل شيئاً واحداً من الأشياء التي من الممكن أن تكون بمنأى عن (المغالطة) حتى في أحاديثنا الخاصة مع أنفسنا، فنحن الذين كنا كما كان ينبغي لنا أن نكون.. ولكن: هو الهوى.. يسحبنا من أهوائنا إلى أقصاها.. ثم في غفلة منا - كعادتنا في الغفلات - نكتشف أننا لم نكن مخلصين ومجتهدين في إخلاصنا إلاّ مع الهوى.. ورمانا الهوى رمانا!
ffnff69@hotmail.com
الرياض