تقييم الأفعال وردودها، والحديث عن مدى سلامة الأفكار واعتلالها، جزءٌ من «البحث عن الحقيقة»، تلك الفكرة الموغلة في تقليديتها لم تفتأت تتحكم بتفاصيل خياراتنا، ولم تفتأ تجعل البشر على اختلاف مرجعياتهم واهتماماتهم يسعون في الحياة من منطلق افتراض وجودها، وحقهم في الوصول إليها، ولم نكن لنبحث ونتحدث ونتداول التصرفات/ المعتقدات/ الأفكار/ المدارس ونقيّمها لو لم يكن ثمة ميزان متخيل في أذهاننا لقياس أفضلية الأشياء، ميزانٌ بصورته الكلاسيكية؛ قاعدة ثابتة وحاملٌ وكفتان معلقتان إن خفت واحدة رجحت أخرى؛ خسارة طرفٍ تقتضي مكسبُ الطرف الآخر، مكسبٌ كامل الوضوح لا اشتباه ولا تماثل فيه،..
الميزان في نمطه هذا قد لا يُعد صالحاً للتطبيق الواقعي، فثمّ أمورٌ تتطلب موازين لها ما يزيد عن كفتين، وثمّ موازين ربحها خسارة وخسارتها ربح، وثم موازين تصلح لأمر ولا تصلح لآخر وثم موازين الكثير في كفتيها خسارة، الميزان في صيغته المثالية المنطلقة من معادلة الربح والخسارة، ليس بالآلة الأنسب لمفاضلة الأمور في عصر التقلبات السريعة، في عصرٍ فيه «فائضٌ من كل شيء»، فائضٌ من الأحداث والأفكار، فائض وتضخم في الأموال ونسب الأثرياء وفي نسب الفقراء والجوعى، فائضٌ في أعداد الطغاة وأعداد الدعاة إلى العدالة، فائضٌ من المفسدين وفائضٌ في أعداد الحقوقيين، فائضٌ من الجمال وفائضٌ من القبح، من السوء ومن الخير، من الشجاعة ومن الخوف،.. العديد.. العديد من كل شيء، ذلك الفائض الذي إن رأيناه شحاً فهو كذلك، لأنه قابلٌ للوصف بحسب الزاوية التي ننظر إليه منها، فالأشياء أضحت تستمد حقيقتها من نظرتنا إليها لا من كونها ذات حقيقة ثابتة نابعة منها،.. هنا يقف ميزاننا الكلاسيكي بكفتيه حائراً عاجزاً عن تقييم الحق والباطل، فكل واحدٍ منهما يتضمن القليل من الآخر في كنهه.
إنه عصرٌ ليس بقابلٍ للقياس بمعادلاتٍ بسيطة إذاً، خارجٌ عن نطاق المعايير الثابتة، عصرٌ فيه الشيء وضده متلازمان دون أن يطغى أحدهما على الآخر بموافقتهما أو بدونها؛ تلازمً لا يقتضي الانسجام، إنما الضجيج، تلازمٌ يصدر أصواتاً لا تسمح لنا بسماع أيٍّ منها، فخروج الأفكار عن ضابط الصوت كان أول نتائج الثورات الاجتماعية.
أدعوها ثورة اجتماعية لأنها لم تنتج عن وعيٍ سياسي إنما عن جوع، كانت في أقرب مثالها كظاهرة كونية نتجت عن اختلال توازن الطبيعة، ثم - كهزة أرضية- تنبش ما في باطن الأرض صالحه وطالحه، أو كفوهة بركانٍ تتدفق منها أنهارٌ من حمم وأنهار من ماء، أخرجت ما في دواخل أفراد المجتمع، وطفح فيها ما تواطأت عليه المجتمعات من أنماط العقول والأفكار والنماذج والطوائف والاتجاهات، وبلا شك أفرزت التمرد والفوضى وسيادة الشيء وضده في آن، وما قد يسود قد لا يمثل العامة، وما يمثل العامة قد لا يُسمح له بالظهور... هي الفوضى في أبرز حالاتها، وأطراف هذه الفوضى - في محاولاتها الحثيثة لاستعادة توازنها- تجنح إلى التزام الثبات الذي ينبع من التشبث لا من الاتزان، فالأخير يقتضي المرونة، والأول -على العكس- قد تخرجه المرونة من أصله، وقد يتطلب الصلابة لاكتمال ماهيته؛ قد لا يُلْزم الثبات على مبدأ أو مذهب فكري عن ثقة بقدر كونه خيارٌ يفرزه الخوف، وبعد الهزات الفكرية قد يخال المرء الثبات منجاةً من الذوبان في الكثرة، فلا يكون نتاج إمعانٍ في الاختيار بل نتاج التشبث بالمألوف، والخوف من الحياد عمّا نحسبه صحيحاًً، لذا ف «الفائض من كل شيء» كنتيجة حتمية للثورات أفرز بالضرورة تصلبات في المواقف، حدةٌ تدعو كل مالا يشبهها نداً، فكانت المواقف تتفق في مقدار تزمتها ونزقها وإقصائها سواءٌ أكانت صادرة عن أصولي أم عن ليبرالي، عن طائفي أم عن حقوقي، الكل متشبثٌ بموقفه خوف سيادة الآخر والجميع يسعى إلى إشاعة فكره وإبراز مدرسته، والمفارقة أن ذلك يشمل المدارس المهملة، والمدارس التي بدت أكثر انغلاقاً في وقتٍ مضى قد أفسح لها المجال باسم الكثرة والحرية والتعدد مما سمح لها بإعادة شحن مفاهيمها واتجاهاتها ولكلٍ جمهوره المستميت لأجله.
اكتظاظ ما بعد الثورات أفسح الأمكنة والثغرات كي تشغلها الأطراف المتغايرة بالإمكانيات ذاتها، كخطوةٍ حتميةٍ تمهد للمواجهة التي تُعد شرطاً في استمرار المجتمعات وبقائها، فإنها - أي المواجهة- ستفرض نفسها عنوة إن لم يفسح لها المجال بهدوء، لكن آليتها تختلف باختلاف درجة وعي المجتمع، وامتزاج العقول فيه، ف «الفائض من كل شيء» يقتضي تزايد أعداد الواعين وغير الواعين، أعداد الطائفيين والمتشددين والغاضبين والمتحاملين - حتى على أنفسهم- ، وفي الوقت ذاته أعداد المتسامحين، اللا إقليميين، الإنسانيين، يقتضي تزايد من أيقظتهم الهزة وتصالحوا مع ما جلبته من تغيير، ومن زادتهم الهزة انغماساً في أوهامهم ولعناتهم، كل أولئك سيجدون أنفسهم مرغمون على المواجهة؛ مواجهة أفكارهم ومواجهة الفئات الأخرى التي لا تشبههم، هذه المواجهة وهذا الاحتكاك الذي قد يولد شرارات حارقة هي ما سينقل المجتمع إلى مرحلة الوعي، لذا فالهزة ذاتها والثورة ذاتها -كما أسلفت- قد لا تكون مُفرزة عن درجة من وعي ونضج ومثالية بلغها المجتمع بفكره بل قد تكون نتاج أدنى درجات الوعي وتكدس الجهل والكبت، وكنتيجة لكل ذلك ستزداد معادلات المفاضلة والمقارنة تعقيداً، وسيبقى ميزاننا الكلاسيكي حبيس حيرته أمام قياس النتائج وحتى ذلك الحين، ليس ثمة نموذجاً رابح وإن ساد، إن لم يكن النموذج السائد أشد الخاسرين لأن سقوطه من منطقته العُليا سيكون أشد إيلاماً.
الرياض