وفي سورة القلم، ومطلعها (ن والقلم وما يسطرون) تتجلى العلاقةُ الوثيقةُ بين النون والميم داخل المفردات، وفي النهايات، حيث تتقاسم الميم نهايات الآيات مع النون: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) 11-13، (سنسمهُ على الخرطوم) 16.
والعمر للإنسان زمانٌ ومكان، وهو دنيا مرحلية، وديمومة آخرة ، وهو لمن اهتدى إيمان وإسلام، وعمل:(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ)الانشقاق6، أي حياةٌ فموتٌ فمنتهى فمرد ومعاد، فمنزلٌ ومقامٌ، فجنةٌ مأوى. وقد يكون الإنسان مخلصاً مطيعاً على خلق قويم كريم، وعلى هدى مستقيم، وقد يكون مقيتاً ممجوجاً ملوماُ مذموماً مكظوماً مدحوراً.
وللميم خصوصية ورونق في كل اللغات، أكانت في أول الكلمة أم في آخرها، فها هي المفردات المبهجة ذات الطاقة الإيجابية، في وصف ما هو مثير: معجزة: merical، سحر: magic، رائع: magnefesent،
لكنها مع فخامة العربية الماضي، والمضارع، والمستقبل، أما في هذا المثال فتتجلى الميمُ بجمالها المنساب، عبر هذا التموج، والمد المتتالي المثير المبهج للنظر والنطق والسمع والفهم، لمن لا تنطبق عليهم الآية الكريمة: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون):
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) المائدة3
كما أنها مقرونةٌ بالمعلقات والمهابة والفخامة، ومن أجملها وأعظمها حكمةً ونضجاُ معلقة ابن أبي سلمى، دون أن ننسى طرفة والشنفرى، وبقية الشعراء العظام:
ألاَ أَبْلِغِ الأَحْلاَفَ عَنِّي رِسَالَةً
وَذُبْيَانَ هَلْ أَقْسَمْتمُ كُلَّ مُقْسَمِ.
فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ
لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ.
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ
لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ.
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتمْ وَذُقْتُمُ
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ.
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً
وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ.
فَتَعْرُككُمُ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا
وَتَلْقَحْ كِشَافَاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ.
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ
كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ.
فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِلُّ لأَهْلِهَا
قُرَىً بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ.
ونحن نسأل ونستفهم رغم الحروب لنعلمَ: من أشعلها، ومتى تخمد نارها، وماذا يجني الغزاة والقتلة والمجرمون منها، وما المصلحة في اقتتال الأهل، ولِمَ يعمّ القتل لا الحكمة والعقل، وأخيراً ألمْ يقرأ مشعلوها التاريخ؟!
ومن مصائب الحروب الاستعمار الذي يهدم ولا يعمر، وتنتصر عليه دوما المقاومة الصامدة. ونحن ننفي لنجيب ونخبر: فإذا سُئلت هل أكلت، أجبت: ما طعِمتُ الطعامَ، فأفدتَ، والله ينفي، ليخبر الرسول ويطمئنه: (ما ودّعك ربك وما قلى).
ومع ذلك فقد يكون للمرء والأمم ملاذٌ، وملجأ، وموئل، وملتحد من ويلات ونيران الحروب، لكن لا مفرّ ولا مناص من القيامة والحساب والجزاء، فإما جحيمٌ، وإما نعيمٌ مستديم.
وما انفكت الميمُ تصلنا باللغة، وما زالت تبهرنا كالمطر كل مرةٍ، فنتعجب من مفاتنها، ونهيمُ بها، ونقول الله ما أجملها من ميم، كما منحتنا ما مضى من شواهد، وكما يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته «جدارية» عن أحرف اسمه:
ميمُ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
ميمُ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموتهِ،
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى.
ومهما يكن، فليكن ختامنا مسكاً يمحو عجزنا أمام محيطها، وما من عطرٍ كهذا المسك من الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى في ختام معلقته الميمية، يظهر عظمة العربية في مبانيها ومعانيها، وميمها المذهلة:
وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ في أُمُورٍ كَثِيرةٍ
يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ.
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ.
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ
عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ.
وَمَنْ يُوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يُهْدَ قَلْبُهُ
إِلى مُطْمَئِنِّ الْبِرِّ لا يَتَجَمْجَمِ.
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ
وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ.
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ
يَكُنْ حَمْدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ.
وَمَنْ يَعْصِ أَطْرافَ الزِّجَاجِ فَإِنَّهُ
يُطِيعُ العَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ.
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ
يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ.
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسِبْ عَدُواً صَدِيقَهُ
وَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لا يُكَرَّمِ.
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ أمرِيءٍ مَنْ خَلِيقَةٍ
وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ.
وَكَائِن تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ
زِيَادَتُهُ أَو نَقْصُهُ فِي التَّكَلُمِ.
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ
فَلَمْ يَبْقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ.
وَإَنَّ سَفَاهَ الشَّيْخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ
وَإِنَّ الفَتَى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُمِ.
سَألْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ
وَمَنْ أَكْثَرَ التَّسْآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ.
وبهذا المسك نرى كم هي مغدِقةٌ ممتعةٌ ميم المعارف، مدركين أنّ اللغة العربية المبينة بميمها إنعامٌ مِن المنعم المعطي المصور المؤمن المهيمن، مَن له الأسماء الحسنى، الذي حفظها بقرآنه الكريم، وله على نعمه منّا حمدٌ لا نكران، وفي هذا تمامٌ ويقين، وكمال إيمان، والله يمنّ، ويُمهِلُ ولا يُهمِل، وهو نعم المولى ونعم النصير، وإليه المصير.
اللهم اجعلنا من الذين إذا مرّوا باللغو مرّوا كراما، والذين إذا ذُكّروا بآيات ربّهم لم يخِرّوا عليها صمّاً وعمياناً.
mjharbi@hotmail.com
الرياض