نواصل مع الجزء الثاني لبعض المختارات المثيرة المقتبسة من كتاب نادر في موضوعه وهو (الرقابة في المجتمعات الإسلامية) Censorship in Islamic societies الصادر بالإنكليزية عن دار الساقي في بيروت عام 2002 للمؤلف البريطاني تريفور موستين. تريفور موستين صحفي ومؤلف بريطاني ومستشار إعلامي متخصص في شؤون العالم العربي وإيران والهند. كتب ولا يزال يكتب للعديد من المطبوعات الدولية المرموقة ومن ثم أصبح مدير النشر لمنطقة الشرق الأوسط لدار ماكميلان للنشر البريطانية العريقة والضخمة. وعمل محاضرا في (معهد رويترز للصحافة) التابع لقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد. وأصدر عدة كتب هامة عن الشرق الأوسط. يعمل حاليا محررا في مجلة (ميد)MEED المرموقة والمتخصصة في اقتصاديات الشرق الأوسط.
(5) مأساة رسام الكاريكاتير الإيراني (كريم زاده): يؤكد المؤلف موستين: رسامو الكاريكاتور في إيران عانوا بشدة تحت الديكتاتورية الإيرانية. فقد تم الحكم على رسام الكاريكاتير (منوشهر كريم زاده) عن طريق محكمة ثورية إسلامية بخمسين جلدة والسجن لمدة سنة وغرامة 500 ألف ريال بسبب رسم كاريكاتوري نشر في مجلة (فاراد) Farad عام 1992 عن لاعب كرة قدم نشر مصاحبا لمقال عن كرة القدم الإيرانية في الصفحة الرياضية. كما حكم على رئيس تحرير المجلة (ناصر أربها) بالسجن 6 شهور.
وبعد خروج (منوشهر كريم زاده) من السجن بعد سنة كاملة دون اتصالات مع عائلته مطلقا في مخالفة لجميع مواثيق حقوق الإنسان (والحيوان)، أمرت فجأة محكمة الثورة العليا بإعادة محاكمته. وتم ذلك فعلا، وصدر عليه حكم ثان عشوائي بالسجن لمدة 10 سنوات جديدة.
الرسم الكاريكاتوري الذي رسمه (منوشهر كريم زاده) نشر في صفحة الرياضة لتلك المجلة مع مقال ينقد بعنف الوضع المتردي لكرة القدم الإيرانية ظهر فيه لاعب كرة قدم يحاول قذف الكرة برجله. ولكن القضاة فسروا الرسم قائلين: (إن شكل اللاعب كان فيه تماثل غير مقبول مع الخميني وظهرت الصورة و(كأن) بعض أطراف اللاعب (مقطوعة) (بحسب القضاة) أو (غير ظاهرة) (بحسب الرسام كريم زاده) وهي اليد اليمنى والساق اليسرى ما اعتبره بعض القضاة تهكما سافرا بالعقوبات الإسلامية) (أي حد الحرابة). ولكن الفنان (منوشهر كريم زاده) نفى تفسير القضاة المبتسر وأصر أن شكل اللاعب لا يشبه الخميني مطلقا وأن الأطراف كانت (مثنية) وليست مبتورة لأن إظهارها بوضوح كامل غير مقبول علميا في فن الكاريكاتير لأن اللاعب يتحرك بسرعة في الملعب وتنثني أطرافه حتميا!! وبفضل المساندة والضغط الدولي وظهور مقالات احتجاج ساخرة على سجنه في مجلة كاريكاتير اسمها (عالم الفكاهة) Witty World بقلم مؤسسها وهو رسام كاريكاتور مجري/ أمريكي مسيحي اسمه جوزيه جورج زابو ومقال سياسي جاد لاحقا في (نيويورك تايمز) رضخت إيران للضغط عليها لإقفال ملف هذه الفضيحة الحضارية وتم بالفعل إطلاق سراح كريم زادة بصورة سرية في نهاية 1994 بعد سنتين من السجن الإضافي. وكان مؤسس مجلة (عالم الفكاهة) الرسام جوزيه زابو قد رفع تقريرا بصفته الشخصية دفاعا عن زميله في المهنة الرسام الفنان (منوشهر كريم زاده) إلى منظمة حقوق إنسان تابعة للأمم المتحدة عن مأساة زميله الإيراني منوشهر كريم زاده مما سبب فضيحة ثقافية وحقوقية لإيران ولذلك تم إطلاق سراحه في النهاية تحت ضغط دولي.
واختفى منوشهر كريم زاده داخل إيران خوفا من انتقام الأصوليين هناك واضطر إلى نقل سكنه إلى مدينة أخرى وقيل إنه غير اسمه إلى حسين كريم زاده.
(6) عقوبات قانونية على (القراءة) و(التفكير) في إيران: يقول المؤلف موستين: نشرت صنداي تايمز اللندنية في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين تقريرا مرعبا عن قانون القصاص الإسلامي الإيراني جاء فيه: تم قطع أطراف 1.700 مواطن (إيراني) لأسباب مختلفة خلال سنة واحدة فقط من مارس 1983 إلى مارس 1984.
ويؤكد المؤلف موستين قائلا: وبغض النظر عن أية مبررات متوقعة، يعتبر القانون الإيراني هو القانون الوحيد في العالم الذي يحتوي على بنود عقوبات لممارسة عمليات (ثقافية) مثل (القراءة) و(التفكير) حيث ورد فيه حرفيا عقوبات على الممارسات التالية بدون أية مذكرات تفسيرية للمقصود بتلك البنود المرعبة:
READING Heretical Books
(قراءة) كتب هرطقة
THINKING Evil Thoughts
(التفكير) بأفكار شريرة
ويبقى طبعا تحديد (نوع) الكتب المقروءة وماهية الأفكار التي تدور داخل تجويف الجمجمة والحكم بكونها (هرطقة) أو (شريرة) أو خلافهما حصرا على الملالي في المحاكم الثورية الإيرانية الذين حكموا على رسام الكاريكاتير الإيراني المسكين منوشهر كريم زاده السالف ذكره بالسجن عشر سنوات.
(7) ولاية بنسلفانيا الأمريكية تمنع كتاباً فكاهياً بسبب تهكمه على تمثال (الحرية): هذه الفقرة ليست من كتاب الرقابة ولكن أثناء بحثنا عن رسم الكاريكاتير للإيراني منوشهر كريم زاده عثرنا على رسم كاريكاتور مذهل منعه حاكم ولاية بنسلفانيا الأمريكية لأنه تهكم على تمثال الحرية ووصف إبادة سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر) بسخرية قاتلة. ورسم هذا الكاريكاتور المذهل فنان دانماركي اسمه (ألنرد فان دام) عام 1992 بمناسبة مرور 500 عام على اكتشاف كريستوفر كولمبوس لأمريكا الذي حدث عام 1492 ونشر الكاريكاتير في أول كتاب تصدره مجلة عالم الفكاهة يحتوي على رسومات كاريكاتيرية ساخرة من جميع أنحاء العالم وراج الكتاب بشدة في مدينة فيلادلفيا مركز الاحتفالات بذكرى كولمبوس، وكبرى مدن ولاية بنسلفانيا، مما أزعج مدير لجنة الاحتفال دومينيك ساباتيني الذي كان يدير تلك اللجنة من فيلادلفيا والذي سعى ونجح في الحصول على أمر من حاكم ولاية بنسلفانيا لمنع بيع وتداول الكتاب في فيلادلفيا وبالتالي سحبه من المكتبات العامة ومكتبات المدارس الحكومية في تلك المدينة التابعة للولاية واضعاً بكل وقاحة حرية التعبير المزعومة التي كفلها الدستور الأمريكي تحت قدميه. والرسم الممنوع يصور تمثال الحرية بشكله المشهور والمعروف ولكن وضع الرسام الدنماركي المبدع ألنرد فان دام مكان الشعلة التي ترفعها يد التمثال اليمنى والتي تمثل النور والحرية (رأس هندي أحمر) مقطوع وتنزف منه قطرات دم كما تشاهدون في الرسم المصاحب. ووضع في اليد الأخرى فأساً يقطر منها قطرات دم بدل الدستور الأمريكي. ورفعت مجلة (عالم الفكاهة) قضية ضد حاكم الولاية ومدير لجنة الاحتفال دومينيك ساباتيني ونجحت في الحصول على حكم لصالحها بإلغاء قرار منع الكتاب وحصلت أيضا على تعويض مناسب.
(8) فتوى إيرانية عجائبية: ويؤكد موستين أن الصحفي روجر كوبر العاشق لإيران تلقى تعنيفا من وزارة الإرشاد الإيرانية بعدما نشر مقالا عن فتوى لواعظ إيراني نصح المشاهدين عبر التلفزيون بأن لا ينام الزوج مع زوجته عراة في السرير. ولكن لماذا؟ سأل الشيخ نفسه ثم أجاب: لأنه لو وقع زلزال وانهار المبنى فهناك احتمال أن يقع رجل عارٍ من طابق علوي على امرأة عارية في طابق سفلي. وعلق كوبر قائلا: إن الجنس يلعب دورا مفصليا في الأصولية الإيرانية الحديثة.
(9) حرية الكتاب في إيران: بحلول 1994 بلغ عدد الكتاب والصحفيين اللذين أعدموا في إيران 48 شخصا وذلك بتهمة الزندقة بحسب تفسير المحاكم الثورية وكان من ضمنهم الشاعر والكاتب المسرحي الشاب سعيد سلطانبور (28 سنة) الذي خطف في ليلة زواجه أمام أعين عروسه وأعدم أمام منزله بالرصاص، وكذلك الروائي الإيراني رحمان هاتفي الذي قطعت شرايينه وترك ينزف حتى الموت بعدما رفض التجاوب مع المحققين وتوريط كتاب آخرين. وكانت السجون تحتوي على عشرات الآلاف من المثقفين ومن ضمنهم أكثر من ألف مفكر وأستاذ جامعي إيراني، وكان هناك أضعاف هذه الأعداد في المنفى، وكان الشاعر سلطانبور قد اتهم بالردة بعدها ألقى قصيدة رمزية في معهد غوته بطهران جاء فيها:
أختار التحدي.....
درب شعرائنا العظام في الماضي ...
درب عشقي، درب فاروقي...
ولذلك اسمعوني وانا أغني على المذبح...
والقصيدة من ديوان (أحدثكم من شاطئ الرعب هذا) الذي أصدره بعض محبيه بعد إعدامه.
(10) المخابرات المصرية في فندق ماريوت القاهرة: يقول موستين: حقاً إن مصر في عهد مبارك رغم تفوقها العلمي وتاريخها العريق بالنسبة لبقية العرب إلا أنها حساسة جداً من أي كلمة نقد. كما حدث معي (أي موستين) عندما وصلت للقاهرة عام 1985 لحضور (مؤتمر الأغاخان للتخطيط العمراني) حيث شعرت بلسعة الرقابة بعدما كتبت مقالا لمجلة الإيكونومست عن المؤتمر وفي مقالي مدحت بتهكم الحكومة المصرية لأنها كشفت عن (الخشب المتعفن في هيكلها) أي إهمالها للتخطيط العمراني السليم. أرسلت المقال إلى قسم الاستقبال في فندق الماريوت في القاهرة ليرسلوه عبر الفاكس إلى لندن ولم أكن أعلم أن مدير الاستقبال يعمل في المخابرات. لقد قرأ مقالي وقام بالإبلاغ عني وتم القبض عليّ بتهمة سب مصر عبر وصفها بالخشب العفن. لقد كانوا يرددون كلمة الخشب العفن فيما بينهم حتى وصلنا إلى سجن خاص أسفل مبنى المخابرات حيث اشتركت في زنزانة لمدة 4 ساعات مع رجلين فلسطينيين وبعض الفئران وطوال ما بقي من ذلك اليوم كنت أسمع كلمة الخشب العفن يكررها كل شخص أقابله من المحققين والشرطة. لقد كانت جريمة عظمى لدرجة أنه لا أحد كان يمكنه أن يستمع لاحتجاجي حتى تم إطلاق سراحي عند منتصف الليل بعد تدخل السفير البريطاني وعندها قلت وداعاً للزميلين الفلسطينيين اللذين أصبحا يشكان فيني بسبب معرفتي للعربية.
(11) الحرية في سوريا: يقول موستين بحسب تقارير المنظمات العالمية، يعتبر العالم العربي من أسوأ المناطق من حيث الحريات الصحفية، فمثلاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية شاعت نكتة سياسية ذات مغزى عميق. قرر كلب لبناني الهجرة إلى سوريا وبالفعل توجه إلى دمشق ولكن عاد إلى بيروت بعد أسبوع فقال له زملاؤه الكلاب: (ماذا حدث؟ لماذا عدت بسرعة؟ ألم تعجبك سوريا؟) أجاب الكلب العائد: (أووه كلا، لا يوجد قتال هناك مثل بيروت والطعام جيد، ولكن بصراحة بعد وصولي إلى دمشق بأيام شعرت برغبة في النباح فعدت إلى بيروت).
(12) النكتة اللبنانية تقاوم المحتل: ويشير موستين إلى أن اللبنانيين قاوموا احتلال وتحكم سوريا ببلدهم بالنكتة. ولما كان نقد حافظ الأسد يعتبر من التابوهات المؤدية للقتل كما حدث مع الصحفي الشهير سليم اللوزي الذي خُطف وقُتل ومُثِّلَ بجسده بصورة منكرة، ابتكر بعض اللبنانيين وسيلة لا تخطر على البال لنقد المحتل عند الذهاب إلى الصيدليات حيث صاروا يطلبون شراء (حافظ ال (...)) لشراء تلك الأداة المطاطية الشهيرة التي لا غنى عنها في اللقاءات الحميمة.
* * *
انتهت المختارات
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب