زن.. زنننن ... نننن...
هذا ليس طنين نحلة ولا دبور..
هي همهمة يترنم بها أتباع فلسفة الزن استعداداً للدخول في دائرة الوعي أو الساتوري، ومع هذه الترنيمة الزنيـّـة ينساب العقل بمعزل عن أي معنى لإدراك الحقيقة ولتنظيم فوضاه الداخلية. والزن هي مدرسة من البوذية الماهاياناية (Mahayana Buddhism) وطريقة حياة متكاملة كاليوغا تتوسل الاسترخاء الجسماني والعضلي والعصبي والنفساني الذي تفتقر إليه أجسامنا المنهكة من ضجيج الحياة. ومن المفترض أن تمكننا هذه الطريقة من اكتشاف الصلة السرية التي تصلنا بكلية الكون عن طريق الوعي بالمستويات الروحية التي تتخطى فلك عملياتنا اللغوية. وهي واحدة من الطرق التأملية المنتشرة في الشرق الأقصى المرتكزة على عقيدة اليقظة الداخلية التي يؤمن تابعيها أنها تمنحهم مفتاح الراحة من كرب الإنفصالية المادية عن الجمع الكوني.
وأهم ما يميز هذه الممارسات هو الركون إلى الصمت والابتعاد عن مصادر الضوضاء لتهئية النفس من الانغلاق على نفسها فيسري في سمعها «صوت الصمت». وهذا المصطلح قد يبدو تعارضياً، لكنه تعبير ينمو ويثمر ويتكاثر في التضاد، والتضاد يهدف إلى تمثيل أوجه الحقيقة وإن كانت متضاربة لتمنع العقل من التشبث بفكرة محددة تسيطر على مداخله وتتحكم في مداركه، فالحكمة تكمن أولاً وأخيراً في القدرة على التمعن في إمكانيات المعنى اللانهائية.
الحقيقة دائماً ديناميكية وحيوية ومستمرة، لكنها إن أحاطتها الحواجز المثبّتة فلسوف تفقد حيويتها وتصبح معتقداً راسخاً: وبذور الحكمة لا تنبت ولا تنمو في فضاءات يغيب عنها الهواء. تحاول الممارسات الروحانية الشرقية، بوذية كانت أم تصوفية، اجتياز طريق النفس المسمى (الدارما للعين) للوصول إلى مرحلة ديانا (dhyana)، وعن طريقها إلى الاستنارة، ثم إلى النيرفانا. وتتطلب هذه الممارسة الكثير من الصبر والمشقة والجهد ، لكن كل ذلك يهون أمام تحقيق التناسق والانسجام مع الطبيعة، والاتحاد مع وحدة الحياة المقدسة.
المتأمل لا يحتاج إلى لغة مادام يحيا في عالم العقل المتسامي الذي يتخطى حدود كل ما هو حسي جامد، فهو يقوم بتركيز انتباهه على أولويات أكثر قيمة ومعنى، وبالترفع عن التملكات الشخصية والأنانية، حينها نتوقوقع داخل حصن الروح الدائم حيث نستبدل القبول السلبي للحياة بالمعرفة الإيجابية في صمت. يقول اليازجي أن عباقرة الصمت يتأملون ولا يتكلمون بل يلجون عالم المطلق من خلال البصيرة.
بل إن اليازجي يتساءل جاداً عن جدوى اللغة ما دام الفرد قادراً على معاينة الحقائق والإحاطة بجوانبها في صمت، وعليه فإن الزيادة في المعنى اللغوي نقصان في المعنى الفكري، وهكذا تصبح اللغة عائقاً يضطر مستخدمها إلى تقليص أفكاره إلى قوالب لفظية تضيّق المعنى. إن اختزال الفكر إلى مستوى اللغة يقيد العقل الذي يرفض التحديد والتقييد، بل يقبع في محراب التأمل بانتظار بوارق الإيحاء المفاجئ والرؤيا التي توقظ الوعي من سباته.
الصمت التأملي في الطقوس التعبدية قرار نابع من قرارة النفس بمواراتها وتذويبها في سكينة عميقة تُخرس ثرثرة الذهن ليتمكن العقل من حصر الرؤية في فعل التأمل بعيداً عن أي تشويش لفظي. وتظهر القيمة التطهيرية للصمت التعبدي في كون الصمت من العبادات المهمة التي تتمتع بحضور لافت في الحضارات والأديان القديمة، فيذكر أوفيد في كتابه التحولات (Ovid, Metamorphoses) أن الإغريق تمثلوا الصمت آلهة على شكل طفل يضع اصبعه على فمه أسموه هاربوكراتيس (HARPOKRATES)، وقد أخطأ الإغريق في فهم رمز الطفولة الهيروغليفي وظنوا أن الأصبع على الفم يشير إلى طلب السكوت.
وقد سكت القديس جون الصامت (558-452) عن الكلام في الثامنة عشرة من عمره، ثم وهب روحه وقفاً في سبيل الخلاص عن طريق ممارسة متواصلة ومتابعة مخلصة للصيام عن الكلام لإحساسه بالمذلة أمام الخالق، واحتقاره لنفسه الخطّاءة، ورغبته في الابتعاد عن مخاطر الانزلاق في خطايا اللسان. وقد احتجز نفسه في دير منقطع في الصحراء لمدة أربعين عاماً داخل زنزانة صغيرة وهو منهمك في صلوات داخلية وتأملات صامتة حتى مات.
ومن هذا المدخل خرجت فرقة الكويكرز (Quakers) - (وتظهر صورة أحدهم على علبة الشوفان المشهورة). وهي آخر فرقة مسيحية ظهرت في القرن السابع عشر في إنجلترا ثم رحلت إلى أمريكا حيث ازدهرت حركتها في مستعمرة ويليام بن (William Penn) أي بنسلفانيا (Pennsylvania). مفهوم العبادة الصامتة يشكل العصب الرئيسي لهذه الفرقة، فعلى غير المعتاد في الممارسات المسيحية تنفي هذه الجماعة أهمية الكنيسة والقساوسة وتعتقد أن الله يتقبل الصلاة من العبد بشكل مباشر، فيجتمع أفراد المصلين في دائرة في منزل ما وينخرطون في صمت تأملي عميق ينضح بالامتلاء. والصوم لغة هو الامتناع عن أي فعل، وإن كان قد ارتبط في الأذهان بالامتناع عن الطعام والشراب إلا أنه يشمل الامتناع عن الكلام بمقتضى ما جاء في التوجيه القرآني الكريم للسيدة مريم بالصوم عن الكلام: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}. كما ورد في القرآن الكريم توجيه آخر لسيدنا زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}، أي أن تحبس لسانك وتمسكه عن الكلام. الصمت هنا انصياع لأمر إلهي، لكنه غير قسري، إنما يتحول إلى فضيلة إذ يختار العبد الورع الخاشع طواعية تنفيذ الأمر محبة في الله، وشوقاً إلى التقرب منه، والحصول على رضاه. والصوم عن الكلام لا يكون إلا في عزلة تبعث على السكينة، حينها يمكن للصمت أن يكون «حضناً تنام فيه الحكمة» كما يقول فرانسيس بيكون. وقد تمكن فيلسوف واحد فقط من تأسيس سمعته على التزام الصمت وهو كراتيلاس (Cratylus)، فقد قيل أنه لم يتحدث تحت أي ظرف وأكتفى بفرقعة أصبعه، رغبة منه في أن يكون أحكم الحكماء، فالحكيم كل ما قل كلامه ازدادت حكمته، لذا فأكثرهم حكمة هو حتماً أقلهم كلاماً.
إن العزلة الصامتة غياب عن الآخر، عندما تمتد بداخلنا تشكل مساحة واسعة نمتلكها وحدنا ونؤثثها بملء إرادتنا بكل ما يوفر لنا الراحة الداخلية، نتمدد في برحاتها ونمشي أميالها على مدى ساعات طويلة دون أن نلتقي أحدا غيرنا يعكر صفونا، تماماً كطفل يلهو فرحاً غير عابئ بمن حوله. من منتصف ينبوع الحياة الصافي حيث تبزغ سكينة عميقة، يرنو المتأمل إلى فوضى الخارج دون أن يلوث ضجيج الأحياء صفاء الصمت بأعماقه.
lamiabaeshen@gmail.com
- جدة