حرف الجيم حميم، ففيه ياءٌ وميم، وله كالأرض جغرافيا وجهات، والجهات للجنوبيين الجنوب، حيث الدفء وخلاص القلوب من هم الجيوب. وهو جمالٌ وجنة من العزيز الجبار جلّ جلاله الذي لما جاء نصره، دخل الناس في دينه أفواجا. والله جميلٌ يحب الجمال، وجميلةٌ هي الحياةُ، وجوادٌ هو الوقتُ للجادين المجتهدين المنجزين المنتجين، الميالين للتجويد والإجادة، ومن جدّ وجد، وقد لا يحالفه الحظ فلا ينجح فيبقى له حسن السعي. والشجعان يواجهون، وعلَمهم جعفر بن أبي طالب الطيار الذي ما أسقط راية المجد والعلَم، فله جناحان في الجنة، والجبناء يولون الدبر، وجبانُ الأجانب والعلوج دجاجة. وجبانٌ هو اللؤم، جبناء هم اليهود، والمنافقون المغتابون، فلا يقاتلون إلا من وراء جدر، ولا يجابهون الوجوه المضيئة بالحق والإيمان بشجاعةٍ، وجهاً لوجه.
وجنةٌ هي المبتغى والمشتهى والمنتهى المأمول، وجنات هي المسعى، وجنان هم الأهل مهما تجاوزوا، وعزيزةٌ هي الأوطان مهما جارت. والعزةُ جبين، والجمال جيد يطوقه الماس والياسمين. والسجدةُ خشوعٌ وخضوعٌ ويقين، وأمانٌ وسلام، وانقيادٌ واستسلام. وهي تصحيحُ سهوٍ، واعترافٌ بربانيةٍ وملكوت. أما ما عدا ذلك فجحيم.
والجمال كالحب والشعر لا تعريف محدد له، فهو يشعّ من الداخل للخارج، ومن الخارج على الداخل.. فيصبح نسبيّاً وخاصاً بكل إنسان، وبكلّ ميل وقول. ومن الجمال الحسنُ، وهو مجلوبٌ وغيرُ مجلوبٍ لدى المتنبي سيّد الشعر: حُسْن الحضارةِ مَجلُوبٌ بِتَطْرِيةٍ/ وفي البداوةِ حُسْنٌ غَيرُ مَجلُوبِ.
والخارج ليس دائما حسب ما نصطفي ونريد، لكننا نتعامل معه وفق ميولنا، وما يمليه ضميرنا، وما تختاره ذائقتنا، وهناك خارج قريبٌ، وخارجٌ بعيد، وفضاءٌ خارجيّ. وهناك أماكن الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود. وأوّل خروجنا من ظلمات ثلاث، من داخل الأم إلى نور وجهها وحنانها، وكف عنايتها ورعايتها بعد عناية الإله.
والشعراء والمبدعون في كل فن يخرجون عن المألوف، وأول الخارجين منهم في ثقافتنا الصعاليك الكبار كالشنفرى وعروة.
والناس تخرج على وليّ الأمر الظالم، أما الخروج على العادل فمحرمٌ ولو كان رأسه زبيبة.
وأكثر الإعلانات الإنسانية التي تشدنا، وتحرك إنسانيتنا هي تلك التي عن الذي: خرج ولم يعد. وهي ترسم مأساة مجتمعات لا فرق فيها بين الشرق والغرب، فهي غربة إنسانٍ في داخله، وغربة مجتمعاتٍ وأوطان. والخروجُ في سبيل الله جهاد جائزته شهادةٌ أو نصر، والخروج عن الملة إلحاد، والخروج مع قرين السوء شر، والجلوس إلى قرين الخير خير: فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي. والخراج ليس ببعيد عن الخروج، فهو العائد مما تخرجه الأرض من خيرات وثمار.
والجود عربي القسمات، وجوادهم الأقرب حاتم الطائي: فأقسمت، لا أمشي إلى سر جارةٍ/ مدى الدهر، ما دام الحمام يغردُ. ولا أشتري مالاً بِغَدْرٍ عَلِمْتُهُ/ ألا كلّ مالٍ، خالَطَ الغَدْرُ، أنكَدُ. إذا كانَ بعضُ المالِ رَبّاً لأهْلِهِ/ فإنّي، بحَمْدِ اللَّهِ، مالي مُعَبَّدُ.
وأكرم الحيوانات الجياد، وجوادها الجواد العربي، وجواد الفتوحات، كريم مسوّم. والصّافناتُ جياد. والعاديات، الموريات، المغيرات، المثيرات، المتوسطات جياد. وامرؤ القيس من أوائل من تأملها ورسمها: مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا/ كجلمود صخرٍ حطّهُ السيلُ من علِ. ومن الجلاميد إلى الحجارة، والحجارة مقرونةٌ عندي بكفرة اليهود، ومن ذلك قصة موسى مع الحجر، وثورة الحجارة ضدهم، حيث أدمتهم حجارة الأطفال والنساء، فجيّشوا جيوشهم، وأظهروا كل قوتهم وبطشهم لقمع الإنسان على أرضه، وفوقهم قويٌّ جليل جلّت قدرته، يمهل ولا يهمل.
والرجل جواد كما أسلفنا ووجيه ونجيب، والمرأة جود، وجليلة وجميلة، وهي جمانة وجوهرة، ولدى الإنجليز جود Jude وهي أشهر من غُنيَ لها عبر جون لينون، وبول مكارتني، وفرقتهم الخنافس التي غزت العالم في الستينات، ولديهم جُون على وزن moon القمر، وجوانا، والأشهر في أذهان الجمهور جِلّ عبر الفيلم جاك وجِلّ، أما السيدتان المثيرتان للجدل عبر تاريخهم الحديث فجاكلين بوفييه كينيدي أوناسيس زوجة الرئيس والملياردير، ومازجةُ الأعراق، وممثلتهم جين فوندا الناشطة السياسية، المناهضة لحربي فيتنام والعراق. ومن الإنس شياطين، أعوذ بالله من كل شيطانٍ رجيمٍ من الجِنّةِ والناس، أما الجنّ فمنهم كافرٌ ومؤمنٌ، ولهم سورةٌ، ومن أجمل قول مؤمنيهم، وقد سمعوا قرآناً عجبا: (وأنه تعالى جدّ ربّنا ما اتّخذَ صاحبةً ولا ولدا).
والجيمُ مهادنةٌ، لكنها قد تكون مشاكسةً، ومن مشاكساتها جيم جدّةَ الشهيرة، ومع ذلك هي محبةٌ للعلم، والجَبْرُ خير شاهد، وهو وليد الحضارة العربية الإسلامية. والجهلُ عكس العلم، وأعظمه جهل النفس، والجاهل عدوّ نفسه، وللجاهليّ جهلُ آخر، هو مزيجٌ من أنَفةٍ وحميّةٍ وعنادٍ وشجاعة، كجهلِ عمْرو بن أمّ كلثوم: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا/ فنجهلُ فوق جهلِ الجاهلينا. والجيم طَموحٌ لا تؤمن بالتخصص، فلها من كل بحر قطرة، ومن بحور الأدب لها جواهر الأدب الذي قرأناه صغاراً، ولها في الشعر واحد من أجمل شعراء العربية، وأرقّهم رغم هجائيّاته، وهل يخفى جرير على محبٍّ للشعر، ولها في الرواية جون شتاينبك صاحب عناقيد الغضب، وجورج أورويل صاحب 1948، ومزرعة الحيوان.
هكذا هي الجيم حميمةٌ دافئة مانحة كجمر وجداول القصيدةِ، وقريبةٌ كجدائل الحبيبة، ومهيبةٌ كالجبال، وهي مثل المحبّ النبيل: تجبر الكسر بمعنييه الحسي والمعنوي، فتجبر الخاطر.
رواه ابنُ جبر. رحم الله جبرَ بنِ جابرٍ، فلعطرهِ رُسِمتْ هذه الجيم، ورحم أمواتَنا، وأمواتَ المسلمين، وهيأَ لنا من أمرِنا رشَدَا، وجعلَ لنا منه يسْراً ومخرجَا.
الرياض
mjharbi@hotmail.com