عندما يعتقد المثقف الليبرالي أن المثقف المتدين يعتمد على مصدر تراثي ماضوي خارج عن الإحساس بالزمن وغير مناسب للتفاعل مع العوامل النهضوية؛ وبناء عليه فكل خطاب يُنتجه هو خطاب جاهل ومتخلف ومتطرف ومكرس للإحيائية الرجعية.. وفي المقابل يعتقد المثقف المتدين أن المثقف الليبرالي يعتمد على مصدر أجنبي ودخيل واستعماري، يتعارض مع أصوليات المصدر التراثي له؛ وبناء على ذلك فكل خطاب يُنتجه هو خطاب تغريبي ومُهدد لأصول العقل الاجتماعي، يهدف إلى هدم قيم المجتمع والتغرير بممثِلاته شكلاً ومضموناً وتكريس النموذج النهضوي في «زيّه المتفرنج»؛ كونه المثل الأعلى المُحقق لنجاح العامل النهضوي.. من خلال ما سبق نجد أن إحدى إشكاليات الأزمة بين المثقف المتدين والمثقف الليبرالي هي «أزمة الخطاب بينهما».
لا أستطيع هنا أن أطمئن كلياً إلى القول بأن المثقف الليبرالي يملك «خطاباً» بمفهوم اصطلاحية الخطاب واستراتيجيته مقارنة بالمثقف المتدين، الذي يملك «خطاباً ناجزاً»، لكني أستخدم الخطاب فيما يتعلق بالمثقف الليبرالي على سبيل التجاوز قاصدة به «مجموع الأفكار التي يُروِّج لها».
فالمثقف الليبرالي في السعودية فشل حتى الآن أن يُكوِّن «خطاباً ليبرالياً ثقافياً» - أو هكذا أعتقد - أسوة «بخطاب المثقف المتدين»، فهل هذا الفشل لأن المثقف الليبرالي لا يملك قدرة على صناعة خطاب ليبرالي ثقافي؟ أم لأن الكائنية المحيطة به تعيقه على صناعة ذلك الخطاب؟
«العملة» في ذاتها لا تصنع «قدرة»؛ أقصد ليس كل من يملك أفكاراً يستطيع أن يؤثر، وهذا ما يميز الخطاب «أفكار تصنع عقيدة توجهات الجماعة وتصوراتها»، وأي أفكار لا تصنع عقيدة توجه وتصور لا يمكن أن تصنع خطاباً، هذا الفَرْق الرئيس بين المثقف المتدين والمثقف الليبرالي في السعودية. فالأفكار التي يحملها المثقف الليبرالي لا تصنع عقيدة توجه وتصور للجماعة، وهذا العجز كما سئلت سابقاً هل هو ناتج من «عدم قدرة» المثقف الليبرالي على صناعة خطاب أم ناتج من «إعاقة الكائنية» للمثقف الليبرالي عن صناعة خطاب؟
قد يرى البعض أن كلا الأمرين وجهان لعملة واحدة في وجود هذه الإشكالية. والحقيقة أنني أتفق مع هذا الرأي إلى حدّ كبير، أي عدم الفصل بين كفاءة القدرة على صناعة التأثير وتأثير الكائنية كتأثير مضاد لتأثير القدرة، وأقصد بالكائنية إمكانات العقل الاجتماعي والظرفيات المحيطة به التي تؤثر في تشكيل الرأي الاجتماعي العام.
ويمكن توضيح المقصود «بكفاءة القدرة على إنتاج التأثير» كالآتي:
المثقف الليبرالي في السعودية يحمل أفكاراً، لكنه لا يملك القدرة على إنتاج تأثير من تلك الأفكار على الجماهير، أي ما يصنع له خطاباً ويُشرّع لجماهيريته سواء في ضوء خطاب الكائنية أو خطاب مدونة العقل الاجتماعي.
فكونك تملك أفكاراً لا يعني أنك تملك بضروريتها قدرة على التأثير في الرأي العام وإعادة تدويره لاستثماره في إنتاج «عقيدة توجه وتصور متطورة». فالقدرة على التأثير وإعادة تدوير الرأي العام تبدأ من المصالحة مع «العقل الاجتماعي»؛ لأنه هو الذي يشرّع جماهيرية الخطاب، وهذه المصالحة هي أول خطوة لبناء خطاب ليبرالي ثقافي، والمصالحة لا تعني الاستسلام لمدونة العقل الاجتماعي لكسب الرأي العام؛ لأنه من الممكن أن تكسب الرأي العام دون الاستسلام لمدونة عقله الاجتماعي، ودون أن تخدعه أيضاً، كيف؟ هنا تتجلى القدرة على إنتاج التأثير من خلال ما يتشابه من أفكار الرأي العام بما تؤمن به أنت من أفكار.
فنحن نستطيع أن نؤثر في الآخرين عبر ثلاث طرق (استعمارهم أو الإيمان بهم أو الإيمان بنا)، والطريقة الأولى تصنع الإقصاء وتُنتج القهر، والطريقة الثانية تصنع الإصلاح وتُنتج الديمقراطية، والطريقة الثالثة تصنع الطاغي وتُنتج الثورة.
وإيمان المثقف الليبرالي بالرأي العام كآخر هو الذي سيضمن له شرعية خطابه، لكن ما يحدث عندنا هو أن المثقف الليبرالي دائماً يطلب من الرأي العام الإيمان به، والطلب على هذه الكيفية يحول «المُطالِب» إلى «طوطم»، ويحول الرأي العام إلى «عبيد»؛ لذلك فعلى المثقف الليبرالي حتى يستطيع أن يصنع شرعية لخطابه أن «يؤمن بالرأي العام»، «أن يحترم الرأي العام»، «أن يشارك الرأي العام»، أن يصبح «جزءاً من شارع الرأي العام، وجزءاً من نموذجه المُعاش».
إن الثقة بين المثقف الليبرالي والرأي العام المتبادلة تسهل شرعية خطاب المثقف الليبرالي.
فبناء الثقة بين طرفين تبدأ من الاتفاق على المشتركات وتطويرها، لا إضعاف كلا الطرفين على الصراع على المختلِفات وإهمال المشتركات؛ لأن المشترك هو الذي يصنع إمكانية التوافق بين المختلفين، في حين أن المُختلِف يستحيل إخراج إمكانية توافق بين المختلفين.
وهذا ما يجب أن يدركه المثقف الليبرالي إن كان جاداً في تحويل أفكاره إلى خطاب، أن يدرك أن «إلغاء مدونة الرأي العام» لا يمكنه من بناء خطاب ليبرالي ثقافي، إنما التفاهم حول ما يُمكن أن يشتركا في تطويره - و هي خارطة الطريق لصناعة خطاب توافقي -؛ لأن هذا التصرف هو الذي يحقق «الطمأنينة النسقية» للرأي العام حول حماية مدونة عقله الاجتماعي؛ وبالتالي يفتح للأفكار الجديدة إمكانية الطرح على طاولة حوار الكائنية التي يعني استيعابها جزءاً من مرحلة التصالح مع مدونة العقل الاجتماعي، وتقديراً معنوياً غير ملزم بالتصديق لواقع الأغلبية.
فالمثقف الليبرالي لا يستطيع بناء خطاب ليبرالي ثقافي إلا بعد المرور ببوابة مدونة العقل الاجتماعي، وعقد اتفاقية سلام ومصالحة وتفاهم بينه وبين حراس مدونة العقل الاجتماعي، الذين يملكون التأثير في الرأي العام الاجتماعي.
لأن أفكار المثقف الليبرالي لن تكتسب شرعية الخطاب إلا في وجود اختيار الجماهير لها، فمثلما أن نتائج صناديق الاقتراع هي التي تحدد شرعية استحقاق السلطة لأي خطاب فالرأي العام كونه ممثلاً للأغلبية هو من يمنح الأفكار شرعية الخطاب، وتلك الشرعية بدورها لا تُمنح إلا عبر المرور «بحراس مدونة العقل الاجتماعي»، الذين يملكون التأثير في الرأي العام.
بما يعني أن المثقف الليبرالي لن يستطيع بناء خطاب ليبرالي ثقافي إلا عبر خطاب المثقف المتدين، وهذا ما يرفضه المثقف الليبرالي، وما يرفضه هو «مأزق الجوكر المفقود».
ويرفض المثقف الليبرالي بناء خطابه عبر المرور بخطاب المثقف المتدين؛ لأنه لا يؤمن بخطاب المثقف المتدين باعتباره خطاباً منتهي الصلاحية، وهو ما يفقده شرعية الخطاب، كما لا يؤمن أيضاً المثقف المتدين بأفكار الليبرالي؛ لأنه لا يملك شرعية الخطاب لعدم امتلاكه سلطة التأثير في الرأي العام وأغلبية مناصرة له. وبذلك نجد أن كلا الطرفين يُشكك في شرعية الخطاب، المثقف الليبرالي بحجة انتهاء الصلاحية النهضوية للمصدر، والمثقف المتدين بحجة عدم تمثيله للأغلبية.
لكن الاستحقاق النهضوي دون إيمان وتفاعل الرأي العام به لا يصنع خطاباً كما يراهن على ذلك المثقف الليبرالي، كما أن الاستحقاق النهضوي المفرد الذي سُينتج بالضرورة خطاباً كما يراهن المثقف الليبرالي ليس معادلاً للخطاب الساكن الذي يسير عبر الصيرورة ويُنتج بالضرورة التطوير، واعتقاد الليبرالي باستغلاله تلك المعادلة هو تزييف لتاريخ طبيعة تطوير مدونات العقل الاجتماعي.
فما نتوقع حصوله عن حتمية مُتسلسلة لا يمكن تصنيفها ضمن «التنبؤات»، وهذا هو الفرق بين النبي والمصلح. يراهن المثقف الليبرالي في تحدياته للخطاب المتحرك للمثقف المتدين على «فلسفة الخطاب الساكن» الذي تحمله أفكاره، وأعتقد أن هذا الرهان خاسر؛ لأن المثقف الليبرالي لا يحمل حتى «خطاباً ساكناً» أو هكذا أعتقد. وما يفرق بين الخطاب الساكن والمتحرك ليس غياب أو وجود الشرعية، فكلا الخطابين يملك شرعية، إنما ما يفرق بينهما هو جدول الأوليات والأولويات.
إن عجز المثقف الليبرالي في إقناع الرأي العام منح أفكاره شرعية الخطاب «الجوكر المفقود» جعله يخسر أمام المثقف المتدين حتى الآن. والبحث عن بديل معادل لتلك الشرعية عبر «المتاجرة بقضية المرأة»، أو هكذا أعتقد.
جدة
sehama71@gmail.com