أكمل الجزء الثالث من مقال: (الطريق إلى الإسلامانيّة) (*)، من منطلق توازن القوى بين حركات الإسلام السياسي العربي والعلمانيّة العربيّة، الذي يوشك أن يطوي قرناً من الزمن، وهما في الأساس ينتميان إلى المخزون الثقافيّ والتاريخي نفسه، كما أنهما يتشابهان في علّة وجودهما الناجمة عن معارضة السلطات القائمة بتشريعاتها وقوانينها المخالفة لأصول كلا الطرفين. وعلى الرغم من معارك الإقصاء الفكريّة بينهما، إلاّ أنّ أحداً منهما لم يُهزم، ولم ينتهِ الجدل حتّى حين؛ إذّاك فإنّ الظروف التاريخيّة التي لم تكن في الحسبان وضعت الفريقين أمام هدنة لتجميد الصراع والالتفاف إلى استحقاقات العهد الجديد، وما يتطلّبه من خطاب مختلف.
فظنّ (العلمانيّة) أنّها قادرةٌ -بالأطروحات الأكاديميّة والمناقشات النخبويّة والعلاقات الدولية- على تقويض ذيوع الإسلام السياسيّ بين الجماهير، وكلّ ذيوع يفرز شرعيّة ونفوذاً ومناعة أيضاً، وليس لكلّ شرعيّة أو نفوذٍ قاعدة جماهيريّة؛ فذلك الظنّ إنّما هو ضرب خيال وبيع أوهام في سوق السياسة.
وكذا ظنّ (الإسلام السياسيّ)، أنّه -بالمرجعيّة الأصوليّة وبالغلبة الجماهيريّة أو بالمحاولات الاتّهاميّة التكفيريّة - قادرٌ أن يمحو آثار العلمانيّة والمدنيّة في المجتمعات العربيّة، فذلك الظنّ أيضاً ضرب خيال وبيع أوهام في سوق الديانة.
وعلى ضوء (حصانة توازن القوى وعدوى العدوّ) (**) بدأت ملامح (العناصر الاندماجيّة) بين الفريقين توافقاً اضطراريّاً قد يتحزّب في العديد من الحكومات العربيّة في عهد «ما بعد الديكتاتوريّات».
فكلا الخطابين اليوم تحت إعادة تأهيل، الأوّل غايته التقارب مع المدنيّة والخطاب الغربي، والثاني غايته التقارب مع خطاب الجماهير والأغلبيّة.
لقد أثّر الإسلام السياسي في خطاب العلمانيّة (المعدّل) بالمحافظة على الأصول العربيّة الإسلاميّة، والاعتراف بالخصوصيّة؛ فالوقائع التونسيّة والمصريّة كشّفت أنّ العلمانيّة جنحت للواقعيّة الانتخابيّة، أليس الموافقة بخوض الانتخابات مع الأحزاب الدينيّة بيّنة على التأهيل بالابتعاد عن الإقصائيّة.
هكذا نتبيّن أنّ خطاب العلمانيّة الساعية للمشاركة طرأ عليه تغييرات عديدة في: (سعة مفهوم المبدأ العام/ الاعتراف بخطاب الجماهير/ الائتلاف مع الاختلاف/ الاعتراف بالخصوصيّة/المحافظة على الأصول).
أمّا إعادة تأهيل خطاب الإسلام السياسيّ تأثّراً بالمدنيّة؛ فلعلّ أهم التغيّيرات: (الاعتراف بمفهوم الدولة عوضاً عن مفهوم الأمّة/ مفهوم المصلحة الوطنيّة/قبول السياسة التعدّديّة/إدراك قيمة العلاقات الدوليّة من منطلق موازين القوى.
(وهذه البيّنات المخرجة عبر «علمنة الإسلام السياسي» -الطاغية في الوقائع العربيّة، دون اختبار أصالتها بعد- تماشياً مع الأدوات الغربيّة، تقودها (الإسلامانيّة: الإسلام العلماني) بالمفهوم العام الذي قدّمت له: أنّ الأصول وتعدّد التأويلات، والممارسات السياسيّة الأولى لا تتعارض مع المدنيّة العلمانيّة.
ولكن يبقى الصراع على تشريعات (الأحوال الشخصيّة) مفتوحاً، والتي أظنّها سوف تكون محل صراع تشريعيّ بين غلبة الإسلام السياسي (السلطة) والمعارضة العلمانيّة.
** يسعى هذا المقال أنّ يقدّم مصطلح (الإسلامانية) في مرحلة انتقاله من المعارضة إلى السلطة؛ وهو المركّب من إعادة تأهيل كلا الخطابين، بما يتوافق مع الخطاب الخارجي الدولي والخطاب الداخلي الجماهيري؛ أي أنّه إيجازة لمخرجات الصراع التوافقي/الائتلافيّ ذي غلبة الإسلام السياسي؛ تشرعن التعامل بالأدوات المدنيّة، وتضفي عليه تعدّديّة في المرجعيّات تزيح عن كاهله (التنفيذي والتشريعيّ) حمولات «الحاكميّة» وتأويلها المغلق، وخلطها بين دلالات (الحكم/القضاء، والأمارة/الأمر، المعروف/العرف) في النص المقدّس.
هكذا نلاحظ أنّ: (توازن القوى بين الإسلام السياسيّ وبين المدنيّة العلمانيّة، وقدرةُ عدوى العدوّ/التأثير والتأثّر،والانتفاضات العربيّة، والوصول إلى السلطة)؛ عوامل ألزمتِ الطرفين على إعادة تأهيل خطابهما الإقصائي لمصلحة خطاب ائتلافيّ على مستوى استحقاقات العهد في انتخابهم بإدارة شؤون بلادهم، فهذا له غلبة الجماهير، وذاك له غلبة العلاقات الدوليّة.
وهذا التكليف وفق الكائنيّة دفع الأوّل لتأويل أصول الأمارة، لإيجاد معادلة بين جماهيريّته وبين مدنيّة خصمه، وأجبرت الثاني بالاعتراف بغلبة الأوّل جماهيرياً وبزعامته السياسيّة.
ولعلّ تسارع وقعنة المصطلح في الساحات السياسيّة العربيّة على مستوى التنفيذ والتشريع مردّه المعطيات الواقعة بدءاً من (كفاية الاقتناع) (***) التي دفعت بالجماهير لكسر الخوف وقيادة الانتفاضات الشعبيّة، حتّى نتائج الانتخابات؛ فإمّا أَنْ يعملا بما تقتضيه المرحلة من تأسيس دولة (مدنيّة ذات خصوصيّة عربيّة إسلاميّة)، ولها قوانينها ا لمدنيّة التي لا تتصادم مع أصولها ولا مع المواثيق الدوليّة، وإمّا أن يطغى أحدهما على الآخر تأثّراً بالتدخّلات الغربيّة التي تحاول اليوم عن كثب أن تبني جسوراً مع الإسلام السياسي أيّاً كان شكله، لأجنداتٍ وسيناريوهات، لا شكّ أنّها لن تكون أبداً لصالح دول المنطقة وشعوبها وثوراتها.
إنّ التركيب اللغوي في (الإسلامانيّة) في تقديم كلمة الإسلام له دلالته اللغوية، التي سوف يحملها المصطلح أيضاً بدلالات الغلبة في التقديم والتأخير.
هكذا نعرّف المصطلح على أنّه: مرجعيّة تشريعيّة تعتمد قراءة الأصول والممارسات الإسلاميّة الأولى بما يشرعن إعادة تأهيل الخطاب ويُعزّزُ مخرجات توازن القوى بين الإسلام السياسي والعلمانيّة؛ بحيث يتضمّن الخطاب المعصرن الاعتراف: ب (الدولة، المواطنة، المصلحة، الديمقراطيّة، التعدّديّة، وحقوق الإنسان.
معتمداً على تعدّديّة أصوله والسوابق التنفيذيّة والتشريعيّة التي لم تخلط بين السلطة والدين.
*** لم تأتِ وقعنة المصطلح (الإسلامانيّة) من التنظير إلى الواقع في تونس، مصر، المغرب، تمنّياً أو مجرّد مخالفة لتجارب الإسلام السياسيّ الثوري/العسكري في تجارب عربيّة سابقة، لكنّ هناك العديد من العوامل التي مهّدت لهذا الاندماج المدني الذي ما زال في باكورته، مثل: (الاستبداد، توازن القوى، الهزائم/الانحطاط، مشاعيّة المعرفة/النت.
والعامل الأخير، لعلّه الحاسم والأخطر في المعادلة: حيث ينسب إليه تحرّر العقل العربي من سلطات الأبويّة وكهنوت الآبائيّة، فلم تعد المعرفة حبيسة القاعات المغلقة والمنابر المتخصّصة ذات الأثر المعدوم، بل صارت مشاعاً لمن شاء أن يتلقّفها، ممّا شكّل (جماعات ضغط) على التيّارات نفسها، إذ لم تعد قياداتها هي المسؤولة بمفردها عن صياغة تصوّراتها، ذلك أنّ التحرّر أيضاً قد تمّ داخل هذه الجماعات، ممّا سهّل ومهّد لإعادة تأهيل الخطابين، فما يشكّ أي عاقل أنّ مشاعيّة المعرفة/النت قد أسهمت فيما آلت إليه الأمور: فكراً وممارسةً ونتيجةً.
ختاماً: إنّ (الإسلامانيّة) ليست حلاً، كما كان يشيع كلا الطرفين: (الإسلام هو الحل)، (العلمانيّة هي الحل)، فالأفكار والنوايا الحسنة لا تبني أوطاناً أو إنساناً، وإن كانت شرطا وعنصراً مهماً في عملية البناء؛ فالصلاحُ موجودٌ في أيّ مذهب سياسيّ إن تجمّعت ظروفه وعناصره، والفسادُ موجودٌ في أيّ مذهبٍ سياسيّ؛ لذلك فإنّنا لا نتوقع من الممارسات السياسيّة للعهد الجديد حلولاً جذريّةً لمشاكل تربويّة، تعليميّة، اقتصاديّة نمت منذ ما بعد الاستقلال (غير المكتمل) حتّى الانتفاضات العربيّة اليوم، لكنّها فرصة تاريخيّة أخرى، أن تكون البداية التشريعيّة والتعليميّة التي قد تثمر بعد جيلٍ خلاصاً من (أغلالٍ) تَبّ حديدها لم يُكسرْ بعد.
هوامش
(*) المقالة الأولى: (الطريق إلى الإسلامانيّة) في العدد 360.
كما أشير إلى ورود المصطلح في بعض كتابات النت بمعنى الإسلام الإيراني.
(**) يمكن مراجعة مقالة: (حصانة توازن القوى، عدوى العدو) في عدد الثقافيّة 362.
(***) يمكن مراجعة مقالة الأستاذة سهام القحطاني (ثورة الجماهير العربيّة وثقافة الإيجاب: تداوليّة قيمة وحدة التصوّر) في عدد الثقافيّة 356 .
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة