نظمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الأسبوع الماضي مؤتمر «الأدب في مواجهة الإرهاب» الذي يسعى إلى تفعيل دور الأديب في خدمة قضية إرساء دعائم الأمن، وقد خرج المؤتمرون بتوصيات أهمها حث الأدباء العرب والمسلمين على تبني قيم التسامح في نتاجهم الإبداعي، وذلك وفقا للمفهوم الإسلامي وضوابطه ونشر إبداعهم سعيا إلى توضيح الصورة الحقيقية للأديب العربي المسلم، ومحاربة للتشدد في سبيل مواجهة الفكر المنحرف، وإنشاء مركز لرصد النتاج الأدبي واختيار النصوص الأدبية التي توضح خطورة الإرهاب وتضمينها المناهج والمقررات، وتخصيص جائزة سنوية على مستوى الدولة تعنى بالإبداع الأدبي المتخصص في التصدي للظواهر السلبية وإقامة المسابقات الأدبية التي تعزز التسامح والوسطية بين الطلاب.
ينظر هذا المؤتمر إلى الأدب من منظور النفعية Utilitarianism، فالقائمون عليه يدركون تماماً أهمية الأدب وقوة تأثيره في الوجدان الجمعي لأي أمة، لذلك فهم يهدفون إلى توظيفه في مهمة تربوية تعليمية وتهذيبية. لكن هذا الأدب المنشود هو استثناء من الأدب المعروف، لذلك فقد صدرت التوصيات على هيئة مواصفات لنوع معين من الأدب يقدمه نوع معين من الأدباء.
يقول الدكتور الوليد المنشاوي في ورقته «أثر الأدب في إرساء دعائم الأمن في المجتمع» أن على الأدب «أن يحارب التشدد والغلو في التصرفات وردود الأفعال، وأن يواجه السلبيات التي تدفع بالشباب إلى الخروج عن طريق السماحة والاعتدال، وأن يأخذ مكانه بتبني الدعوة إلى تعزيز الوسطية في النهج والاعتدال في الفكر»، وأن يدعو «إلى توقير العلماء وإبراز مكانة أهل العلم وترسيخ أهمية لزوم الجماعة، وتعزيز مبدأ الحوار وتعميق معاني الانتماء إلى الوطن».
هذه إذاً هي خارطة الطريق مرسومة بعناية شديدة وما على الأديب سوى أن يملأ الفراغات باستخدام عناصر الموضوع المتوفرة لصياغة الجمل المفيدة من حولها بأسلوبه الساحر: السباق سيوضح من هم أمهر الكتاب في الاشتغال على أكثر تلك العناصر، والجائزة في الانتظار!!
لا أعتقد أن معايير النقد الأدبي الحديث تستحسن فكرة إخضاع الأدب للغائية وتحميله رسائل موجهة لخدمة أغراض معينة، فهذه فكرة قديمة وقد أثبتت في جميع تطبيقاتها عدم جدواها لأنها لن تنتج أدباً محترماً من الناحية الفنية والجمالية، وربما ما يطمح إليه المؤتمر هو تسخير أقلام الكتبة أو المؤلفين التربويين، لكن منتجهم لن يكون أدبياً بأي حال من الأحوال.
عندما شيّد أفلاطون جمهوريته الافتراضية أسكن فيها كل الفئات من المواطنين، لكنه استثنى منهم الشعراء على وجه التحديد، ولنقل الأدباء، لأنه أراد للجمهورية أن تكون فاضلة حصرياً، والشعراء سيجلبون إليها الرذيلة، كما أدعي. وسبب هذا الطرد من نعيم الجمهورية هو طبيعة فن الشعر، فالشاعر يقدم تمثيلاً مخاتلاً للواقع، لذلك فإن الشعراء يمثلون خطراً على سكان الجمهورية الأفاضل لأنهم سيتعاملون مع كذبات الشعر على أنها حقائق، وحين يتم خداعهم سيظنون الخير شراً والشر خيراً فيصبحون من الضالين.
لكن أفلاطون عاد عن حكمه المطلق بإخراج الشعراء من جمهوريته فاستثنى منهم أولئك الذين سيسخّرون مواهبهم لخدمة أهداف الفضيلة ورفع معنويات المواطنين ودفعهم لاختيار الحق والفضيلة بتزيين تلك القيم لهم وحضهم عليها. هكذا وجد أفلاطون أن لا غنى له عن الشعر ولم ينتبه للمتناقضات التي وقع فيها باستثنائه ذاك، إذ كيف يأمن أفلاطون جانب الشعراء الفاضلين وقد حدد بنفسه أن الشعر بطبيعته يستدعي الكذب، أي تقديم بناء متخيل للمتلقي على أنه واقع؟ بمعنى آخر، أفلاطون يفصل باستثنائه الثاني بين الشاعر وبين قدراته وأدواته الشعرية، فالشاعر ليس سيئاً في ذاته بل في شعريته، وهو في نظره مسيطر على دفقه الإبداعي، فيستطيع أن يكتب شعراً ملتزماً إن شاء وآخر غير ملتزم إن شاء.
هنالك نقطتان رئيسيتان هنا: إذا كان الشاعر سيعطي مواثيق لتقديم شعر هادف، فهل يعنى هذا أنه لن يكون على طبيعته الشعرية الحرة، وأنه سيلوى عنق نصوصه لتستقيم؟ وإذا قام الشاعر بهذا الفعل القسري لتغيير مسارات قصائده حتى تتماشى مع مطالب الجمهورية، فهل سيكون صادقاً أم تراه سيكون مصطنعاً؟ فهل يجبره أفلاطون على الكذب مرتين، خاصة وأن الشاعر مهنته قائمة على ادعاء الحق، ومداراته الشعرية هي مدارات افتراضية تشبه كثيراً افتراضية أفلاطون لجمهوريته الفاضلة.
أما احتياج أفلاطون لعودة بعض الشعراء لجمهوريته فهو اعتراف ضمني بأهمية الشعر وقوة تأثيره على المتلقي، فالشعر سلاح فعّال ونافذ لأنه يتخلل وعي المتلقي ويسحره ويحركه لتبني موقف ما وتفعيل فكر ما، لذلك فإن الجمهورية تحتاج إلى رفع الحالة المعنوية عند المواطنين وإلى تقوية مشاعرهم بحشدها وتحريكها باتجاهات تحددها مصالح الجمهورية الأفلاطونية. من خلال نقطة واحد وضع أفلاطون أسساً جوهرية للنقد الأدبي: فكرة المحاكاة كتوصيف لطبيعة الفن، فكرة القصدية في الإبداع، فكرة أهمية المتلقي كطرف فاعل في التواصل الشعري، فكرة النفعية كمضاد ناقض للشعرية الجمالية المطلقة.
يستطيع أفلاطون وهذا المؤتمر وتجربة الأدباء السوفييت أن يفترضوا ما شاءوا من حالات مثالية يتم فيها تنقية الأدب وتصفيته لصالح المجتمع، لكنه في الحقيقة سيظل أدباً محدوداً بنفعيته مقيداً بأهدافه ومؤطراً بمطالب الفائدة المضمونية المؤقتة. هذه النصوص المقننة والمفروضة فرضاً قد تفلح في صرف الناس عن قضايا الشر إلى الخير كما يتمنى رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر الدكتور محمد الصامل، لكنها لن تكون نصوصا أدبية بوصفها كيانات لغوية ومنظومات تركيبية جمالية ذات مواقف فنية ورؤية إبداعية، لا تخلو من القيم الرفيعة والأهداف الإنسانية النبيلة. الفارق الكبير بين هذا وذاك هو معيار الحرية في الاختيار والتوجه، وما الإبداع بلا حرية...؟
وحتماً فإن هذا الأدب المفصّل على المقاس المطلوب سيكون كما أريد له أن يكون: «مرشداً إلى كرم الأخلاق، ناهياً عن الدناءة والكلمة الخبيثة التي توقد نار الفتنة وتؤجج روح العصبة»، لكنه لن يكون أدباً رفيعاً يشبه ما يطمح إليه مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور سليمان أبا الخيل، فما يريده من أدبائنا هو « مماثلة لكليلة ودمنة وأعمال شكسبير في جودة الإنتاج الأدبي لكي يبقى في ذاكرة المتابعين لمئات السنين». هكذا صرّح في ختام المؤتمر.
كليلة ودمنة وأعمال شكسبير وغيرها من روائع الأدب الخالد لم تستمد قيمتها من إسهامها في النفع العام المقيد بقضايا محددة ومحدودة، فهي تماثل الحال الإنساني في عموميته وتتسم بالمسئولية المعرفية والحيادية التامة لتخلق وعياً عميقاً عند متلقيها، فتتسع مداركه ويرتقي فكره وتسمو أخلاقه. لا أعرف وصفة تضمن وصول أدبائنا إلى كتابة مثل هذه الروائع، لكني موقنة تمام اليقين أن تحديد موضوع الإنشاء لن يذهب بهم بعيداً.
جدة
lamiabaeshen@gmail.com