“تمرق علي تمرق..
ما بتمرق.. ما تمرق.. مش فارقه معاي..”
الغريب.. أنه لفرط الغرابة.. لم يعد ما هو غريب لم يعد هناك ما هو مؤلم حقاً، لأنه لكي تتألم يلزمك حدثاً يمكن أن تتبعه بكلمة “حقاً”! لا شيء في صميمه حقيقي، أصبحنا كالعرب القدامى نصنع أمانينا من التمر أصناماً وإذا جعنا أكلناها بلا أسف ولذا تجيء الخيبة.. وتذهب دون أن تأخذ منا شيئا يذكر سوى ترسيخ الخواء عند البعض وترسيخ اليأس عند الآخر.
لم تعد الخيبة تقوم بما هو جديد حقاً.. لأن لا شيء” حقاً”.. فلفرط ما خبرنا الحياة أصبحنا نفتعل الحياة وننسج القصص في مخيلتنا قبل الواقع، ولأنها مفتعلة وليست تلقائيةَ قدرية.. طبيعية, تأتي النهايات واقعية جداً لتكشف زيف الأحداث لأننا بدلاً من أن نكون بشرا عاديين تحدث لهم الأشياء تحولنا إلى ممثلين يقودون الحدث من خلال أقنعة محضرة مسبقاً هذا الانفعال للخيبة وذاك للفرح وثالث للأمنيات المشتركة ورابع للخلافات وبدلا من أن يتربص بنا الحب أصبحنا نتربص به.
ولذا فقدنا الشرط الأساسي لتواجده: الغفلة! حين تتربص بالحب تفسد خططه لأخذك على حين غرة! وتحصل بنفسك على قصة حب شبيهة بتلك التي كنت جديراً بها.. لولا أنك تدخلت في خطط الحب.. أو خطط كيوبيد! قبل 70 سنة كان أجدادنا لا ينتظرون شيئاً ولذا فإنه إذا وقع حدث جديد يفرحون ويتصرفوا على سجيتهم، فتأتي ردود أفعالهم أصيلة ومتباينة بحسب طبيعتهم التي لم تألف كثير من الأشياء عدا مفردات حياتهم اليومية.
ولكننا درسنا أحداث الحياة جيداً، وعرفنا أين تكمن الأجزاء اللذيذة.. وبقينا نتوقع ونتوقع.. ونتوقع.. وكأنه فلم معاد فأصبحنا نتجاوز الأحداث بالضغط على زر “FF” لنشاهد تلك الأجزاء الأجمل ثم نغلق الجهاز.
ولفرط التوقع يولد السأم فينا وينفذ صبرنا لنبدأ برسم القصص وحدنا.. دون تدخل القدر.. ولذا تجيء القصص مفتعلة والتفاصيل مثالية أكثر مما ينبغى “شغل ممثلين بقى!” إلى أن تهوي القصة فجأة وتتحطم.. لأنه لا بناء قدري أصيل يطيل عمر الحب والدهشة واللهفة والاحتياج ولذة التفاصيل ويجعل من الآخر حتمية.. والسبب هو أننا مترفون.. وربما فارغون ولا نحمل هماً حقيقياً وربما لأن الحياة لم تعد تجود بشيء حقيقي.. ولفرط اليأس بدأنا نوهم أنفسنا..
ولذا تمتلئ أغنيات اليوم بمعانٍ مكرورة وفارغة ومتوقعة ولا تحرك شعوراً حقيقياً داخلك، كما يمكن لها ببساطة أن تمتلئ بالشتائم عند الخيبة لتدرك فوراً أنه لا علاقة للحب بالأمر من قريب أو من بعيد! ولذا تمتلئ أغنيات الأمس بمعانٍ مثل “هواك هو اللي خلى العمر غالي” و “عايزنا نرجع زي زمان؟ قول للزمان ارجع يا زمان.. وهات لي قلب لا داب ولا حب.. ولا انجرح ولا شاف حرمان” أصبحت الأغنيات اليوم على طراز البيوت التي يمكن بناؤها في يومين! وتستمر لمده دقيقتين وقد نشعر بالسأم قبل أن تنتهي.. لأنه لم يعد لدينا وقت لنعيش بالحركة البطيئة.
هل لاحظت معي كم يركض إنسان اليوم مقارنة بإنسان الماضي؟ هل لاحظت أن متطلبات إنسان اليوم ليشعر بالاستقرار والرضا تعادل متطلبات إنسان الماضي ضرب 4 أو 5% وهل تراكم متطلبات حياة إنسان اليوم هي أمر جيد أم أنه أدخله في معادلة صعبة للعيش تجعله يركض ويركض ويركض ولا يكتفي من الركض! وكل متطلباته يدخلها ضمن مراثونه الذي لا ينتهي بسبب أوهام السيطرة والقوة التي أوحت إليه الحياة المعاصرة بها.
ولأننا لم نعد ندع الكثير للقدر.. دخلنا في الكثير من الزيف.. حتى اختلطت الأوراق وما عاد الألم مؤلماً ولا الفراق مؤذياً إلى حد كبير..
ولم يعد هناك ما يصمد أمام الزمن والموت والآخرين..
لم يعد هناك ما يقف في وجه الملل والاحتمالات المتاحة..
ولم يعد هناك ما هو “حقاً”!.. لذا لم تعد هناك غرابة..
جدة