كتاب «أشرطة صدام: الأساليب الداخلية لنظام استبدادي 1978-2001»
أود أن أفتتح صفحة اليوم بمقولة: «الماضي لا يموت مطلقا، بل إنه ليس حتى ماض» وهي للروائي والشاعر الأمريكي وليام فولكنر (1897 - 1962). ومن ثم نستعرض لكم كتابا وثائقيا هاما صدر مؤخرا.
صدر في 30 سبتمبر الماضي عن دار جامعة كامبريدج للنشر كتاب «أشرطة صدام: الأساليب الداخلية لنظام استبدادي 1978-2001» باللغة الإنكليزية وهو عبارة عن دراسة لمركز بحوث وثائق الصراعات CRRC التابع لجامعة الدفاع الوطني وهي مؤسسة أمريكية للتعليم العالي تمولها وزارة الدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية وتقع في العاصمة واشنطن، دي سي. والدراسة من تحرير الباحثين د. كيفن وودز ود. ديفيد بالكي ود. مارك ستوت. وأشرفت على الترجمة المترجمة العربية السورية الأستاذة ليلى صبار المتخصصة في ترجمة الوثائق العراقية للكونغرس الأمريكي.
ويتكون الكتاب من تفريغ لتسجيلات صوت وفيديو (1.200 تسجيل معظمها صوتي وقليل منها فيديو ولم يذكر الكتاب شكل النسخ الصوتية وهل كانت على أقراص مدمجة أم كاسيت أم غيرهما) وكانت القوات الأمريكية قد سطت عليها بعد غزو العراق عام 2003. وتم تحويل هذه التسجيلات إلى 7.500 ملف صوتي رقمي (إلكتروني)، ومن ثم تمت عملية مسح سريعة نتج عنها اختيار 2.300 ملف صوتي كان فيها صدام المتحدث الرئيس، ومن ثم تمت عملية غربلة حسب أهمية الموضوعات ونتج عنها 900 ملف صوتي شملتها هذه الدراسة المنشورة الهامة والنادرة. وتشمل التسجيلات الفترة من 1976 إلى 2003 وهي محادثات صدام الخاصة مع مستشاريه، وجنرالاته، والزعماء الاجانب وشيوخ القبائل، وغيرهم. وكانت أكثر فترة زمنية كثافة من حيث التسجيلات بين عام 1983 وعام 1996. كما يشمل الكتاب تحليلات كثيرة لمضمون بعض النقاشات وهناك هوامش كثيرة جدا للشرح والتوضيح. ويقع الكتاب في الطبعة الفاخرة ذات الغلاف الصلب في 432 صفحة من الحجم الوسط ويتكون محتوى الكتاب من الفصول التالية: تمهيد، مقدمة، ملاحظات للقراء، قائمة بشخصيات الكتاب (أكثر من 30 شخصية) ثم تفريغ أهم التسجيلات والتي تم تصنيفها في الفصول التالية: (1) الولايات المتحدة، (2) الكيان الصهيوني، (3) العالم العربي، (4) قادسية صدام، (5) أم المعارك، (6) ذخيرة وأسلحة، (7) الحصار واللجنة الخاصة، (8) حسين كامل. وأخيرا هناك: خاتمة، ملاحق، مراجع. وخمن الباحثون إن تفريغ كامل جميع التسجيلات التي يبلغ عددها 1.200 تسجيل قد يحتاج إلى 34 ألف صفحة تقريبا. ومن عيوب الكتاب أن التسجيلات لم تكن مؤرخة ومعنونة كما أن فرز الأصوات لمعرفة شخصية المتحدثين كان مهمة شاقة غلب عليها التخمين.
وقد قرأت في أحد هوامش الكتاب أن تسجيلات منتقاة لبعض الإجتماعت سوف توضع في الموقع الإلكتروني لمركز بحوث وثائق الصراعات CRRC. وربما قد تكون وضعت بالفعل لأن الهامش كتب -طبعا- قبل صدور الكتاب، ولكنني لم أتحقق من الأمر لضيق الوقت.
ووصف المؤرخ الأمريكي البروفيسور ميلفين لفلر الذي أصدر 13 كتابا في حقل التاريخ ويعمل أستاذا للتاريخ في جامعة فرجينيا هذا الكتاب بالمذهل لأنه يكشف لأول مرة من الداخل آلية عمل الأنظمة القمعية المستبدة في الشرق الأوسط، وأشار إلى أن الكتاب سيصبح مرجعا رئيسا ولا يمكن الإستغناء عنه لدراسة «التفكير الديكتاتوري». وبحسب مجلة ماكلين الكندية، فإن البورتريه الناتج من التسجيلات يظهر صدام حسين «كرجل ذكي، وماكر، ولكن أيضا واهم، وقاس، ومتعصب، وبالتأكيد يعاني جنون العظمة». وتضيف المجلة: يجبر صدام أعضاء مجلس قيادة الثورة على قراءة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، لأنه على ما يبدو يجهل ما أصبح معلوما للجميع بأنه نص مزور معاد للسامية (تعليق المترجم: غير صحيح. ففي أحد الاجتماعات كما سيرد لاحقا في المقالة، رد صدام بمهارة على فكرة تزوير كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون». انتهى تعليق المترجم) وتشير المجلة إلى أن صدام استخدم تكتيكات إجرامية لقمع المقاومة الكويتية.
وفيما يلي نقدم لقطات من أهم ما نسب لصدام حسب رأينا، ولكن بالطبع مع تجنب بعض الموبقات السياسية التي وردت في الكتاب، وسنصنفها حسب الموضوع:
العرب وإسرائيل صراع وجود
نسب لصدام قوله: «المشكلة بين العرب وإسرائيل لن يتم حلها سلميا مطلقا. إما إسرائيل أو العرب». ولكن العدو الأكبر لصدام حسين – يقول المحرر - كما تدل التسجيلات كان الولايات المتحدة. لقد سعى صدام لفهم أمريكا، ولكنه لم ينجح في ذلك. «أميركا، أيها الرفاق، ليست دولة سهلة، ولكن العراق ليس دولة سهلة أيضا». وأضاف متعهدا أمام مستشاريه: «لن نحني رؤوسنا طالما كنا على قيد الحياة، حتى لو اضطررنا لتدمير الجميع».
التهديد أهم من القصف
ونقل عن صدام قوله في اجتماع لمجلس قيادة الثورة: «أنتم عراقيون وتدركون أنه حتى الأسلحة الخاصة التي يملكها الإخوة، إذا ما استخدموها، فستفقد قيمتها. أحيانا أفضل نتيجة تحصل عليها من سلاح هو أن تواصل التهديد قائلا: «سوف أقصفكم» لأن مجرد ترديد هذا التهديد أقوى من القصف الحقيقي». وتعلق مجلة مكلين الكندية على هذا الكلام قائلة: صدام حسين قال الكلام السابق لحاشيته المقربة منه في خضم حرب العراق مع إيران في الثمانينيات، أي قبل ما يقرب من عقدين من الزمن قبل أن تتمكن الولايات المتحدة أخيرا من الإطاحة به في عام 2003. لو تمكن مخططو الحرب الأمريكية من الحصول على تسجيل تلك المحادثة، فإنهم كانوا سيفهمون أن عدم تعاون صدام حسين مع المفتشين الدوليين للأمم المتحدة على الاسلحة لم يكن يعني أن صدام كان يخفي أسلحة كيماوية وبيولوجية، بل كان يعني أنه كان يريد أن «يوهم» أعداءه أنه يملكها فحسب!!!
تدهور الاقتصاد الأمريكي
ونقل عن صدام قوله عن الولايات المتحدة بعد حرب تحرير الكويت: «اقتصادهم لن يتحسن مطلقا مع المصروفات التي أنفقوها في منطقة الخليج وأوروبا. لقد أنفقت الولايات المتحدة 68 مليار دولار في منطقة الخليج، وأنفقت في أوروبا 128 مليار دولار. وإذا لم تسحب أميركا قواتها من جميع أنحاء العالم، فإن اقتصادها لا يمكن أبدا أن يتحسن. أميركا ليست في مرحلة شبابها. أمريكا على حافة الكهولة، وفي مرحلة بداية الشيخوخة. الرئيس الاميركي يمكنه أن يوفر مليار دولار من هنا ومليار دولار من مكان آخر، ثم مليارين آخرين من مكان آخر ويمكن أن تكون مفيدة لهم، ولكن ذلك لن يشفي جرحه الذي أصبح عميقا بحيث لا يمكن أن يلتئم إلا إذا قطع وخفض الميزانية العسكرية».
عمائم شيطانية
ونقل عن صدام قوله في اجتماع لمجلس الوزراء أثناء الحرب مع إيران. «صدام: هذه حقيقة، أقصد يجب أن لا تستهينوا بهذا العدو الإيراني واعتبارهم مجرد عمائم. كلا، إنهم ليسوا مجرد عمائم فقط، الإيرانيون «عمائم شيطانية»!!!
الصهيونية تدعم إيران
ونقل عن صدام قوله في الاجتماع السالف: «الإيرانيون يعرفون جيدا كيف يخططون للغدر ويعرفون جيدا كيف يتواصلون مع العالم لأنهم لا يقومون بهذا التواصل بأنفسهم. انظروا: هل نستطيع نحن أن نتواصل مع العالم؟ دعونا نحاول أن نشتري أسلحة من السوق السوداء. هل نستطيع أن نفعل ما يفعله الإيرانيون؟ إنها الصهيونية، أقصد الصهيونية تدعم إيران، الصهيونية تأخذ بيد الإيرانيين وتعرفهم بالأطراف الأخرى فردا فردا وبكل قناة اتصال أقصد، هيا يا رفاق: إنهم الصهاينة. هل يجب أن أعيد هذا في كل اجتماع؟ أقصد هل هذا هو الوقت لإنهاء الحرب مع إيران وبهذه الطريقة؟!!»
الزعيم حسني مبارك
وفي اجتماع لصدام مع مستشارين خمن المحررون أنه عقد في منتصف التسعينيات تقريبا، «رد صدام على أحد مستشاريه (بتهكم): هل يعتقد هذا الأخ مبارك أنه قائد العالم العربي حقا؟ ويجيب المستشار: نعم سيدي، هذا ما يقوله هو وصحافته. صدام: خطأ خطأ خطأ!! أقسم بالله العظيم بأنه شخص ظريف ومضحك وهذا كل ما هنالك لا أكثر ولا أقل. يجب معرفة من وضع مثل هذه الفكرة في رأسه. ويرد المستشار: نعم سيدي لقد قال إنه هو القائد ونقل عنه «لقد وضعوني في مجلس التعاون الخليجي (كذا) ولكنني اكتشفت أنه مجلس للتآمر (صوت ضحك صدام)، لقد اكتشفت ذلك من طريقتهم في الحديث» (ضحك جماعي لمن حضروا الإجتماع). ولا يخفى على القارئ الفطن أن المحررين أخطأوا في وضع «مجلس التعاون الخليجي» والصحيح المأسوف على شبابه «مجلس التعاون العربي» ومن هنا نعلم أنه حتى كتب الأمريكان فيها أخطاء قاتلة!!!!
صدام الذي عرفته
وفي ندوة عن الكتاب، قدم الدكتور ديفيد بالكي نائب مدير وكبير الباحثين في ل «مركز بحوث وثائق الصراعات» المداخلة التالية وهي بعنوان «صدام الذي عرفته»:
أنا ممتن لتوم لدعوتي لتقديم مداخلة عن تجربتي في تحرير هذا الكتاب الهام الذي صدر للتو عن دار جامعة كامبريدج للنشر. لقد كنت محظوظا لأني شاركت في تحرير هذه الدراسة الهامة مع الباحثين كيفن وودز ومارك ستوت عبر مركز بحوث وثائق الصراعات التابع لجامعة الدفاع الوطني. ويستند كتابنا على مراجعة عدة آلاف من الملفات الصوتية (وعدد أصغر من ملفات الفيديو) التي استولت عليها قوات الولايات المتحدة عليها بعد سقوط نظام صدام حسين. التسجيلات تغطي اجتماعات جرت خلال عدة عقود من حكم صدام مع مجلس وزرائه، ومجلس قيادة الثورة، والجنرالات، وشيوخ القبائل وكبار الشخصيات الزائرة وغيرهم. ونتيجة لهذه الدراسة يمكن وصف بعض السمات والأنماط والأفكار عن جوهر شخصية صدام حسين التي ظهرت نتيجة لجهودنا وسوف أتطرق إلى أهم ث لاثة منها جعلتني أعرف شخصية صدام بصورة أفضل مما كان شائعا:
أولا، لم يكن صدام في جيب أميركا خلال الثمانينيات، كما كتب عنه خطأ بعض المتخصصين. في الواقع، لقد كان أكثر عدائية وشكا في الولايات المتحدة، حتى في ذروة دعم الولايات المتحدة للعراق خلال الثمانينيات. وكان صدام يؤكد لمن حوله أن الولايات المتحدة كانت وراء سقوط الشاه ونجاح الثورة الإيرانية، بهدف «تخويف سكان الخليج حتى تتمكن أمريكا من تحقيق وجود عسكري لها في المنطقة». وبعد أن كشفت فضيحة «إيران-كونترا» بوضوح أن الولايات المتحدة قد سلحت إيران سرا وزوتدها بمعلومات استخباراتية هامة ضد العراق. وشكا صدام حسين دائما لدائرته الداخلية أن الأميركيين كانوا ولا يزالون «متآمرون حقيرون» لأنهم زودوا إيران بمعلومات استخباراتية ضد العراق أدت إلى احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو وكادت أن تؤدي إلى هزيمة العراق واحتلال إيران لدول الخليج!! ومن وجهة نظر صدام، وكان الهدف من عملية «إيران-كونترا» في المقام الأول «هو إيذاء العراق، وليس لمساعدة الكونترا أو تحرير رهائن الولايات المتحدة في لبنان». ووصف صدام سلوك الولايات المتحدة بأنه «طعنة في الظهر» لأنها كانت «تتظاهر» بأنها ضد إيران. وفي مايو عام 1988، قال صدام لمستشاريه: «علينا أن نكون على حذر من أمريكا أكثر من إيران لأن أمريكا هي الشرطي الذي يحمي إيران».
ثانيا: بالنسبة إلى نظرته للعالم، فقد كان مايقوله صدام حسين للجمهور هو نفس ما يقوله في جلساته الخاصة. وبالرغم من أن أمريكا غالبا ما لا تصدق ما يقوله الحكام المستبدين علنا، فإن صدام كان صادقا عموما ومتطابقا في خطابه العام مع خطابه الخاص. كما تحدث صدام كثيرا عن حاجة رجال القيادة العراقية لقراءة ودراسة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» وعلق صدام على احتمال تزويره: «لا أعتقد أن هناك أي تزوير فيما يتعلق بتلك الأهداف الصهيونية التي وردت في كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، وتحديدا فيما يتعلق برغبة صهيونية في اغتصاب أموال الناس لأن اليهود جشعين».
ثالثا: كان صدام يعتقد أن حصول العراق على سلاح نووي سيمكنه من تحرير الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل. العراق لم يسع للحصول على أسلحة نووية لعمل هجمة نووية «استباقية» ضد إسرائيل، بل إن صدام حسين أوضح في جلساته الخاصة إنه يريد سلاح نووي لكي «يردع» إسرائيل حتى لا تستخدم سلاحها النووي ضد العرب. وحتى يتمكن العراق من شن حرب استنزاف دامية ضد إسرائيل حيث قال في أحد جلساته مع مستشاريه: «إن الطلب الأكثر أهمية هو أن نخطط نحن الموجودين في العراق وسوريا قبل ذلك العدو، ويجب أن نأخذ في الإعتبار ونتحمل القوة الجوية الهائلة للعدو، ويجب أن نستمر في محاربة العدو ونضع الضغوط على أصدقائنا السوفيت ونجعلهم يفهمون حاجتنا للسلاح – نريد سلاح حتى نرد بحسم عندما يهاجم العدو الإسرائيلي منشآتنا المدنية، نريد امتلاك أسلحة جوية فعالة للهجوم بالمثل على المنشآت المدنية الإسرائيلية. نحن مستعدون للجلوس والامتناع عن استخدامها، إلا عندما يكون العدو يهاجم المنشآت المدنية في العراق أو في سوريا، وحتى نتمكن من ضمان مواصلة الحرب الطويلة المدمرة للعدو لنا، ونستعيد بكل سعادة كل متر من الأرض ويغرق العدو بأنهار من الدماء. ليست لدينا رؤية للحرب أقل من هذه» انتهى حديث صدام.
بالطبع هناك رؤى أخرى كثيرة، ومحاضر اجتماعات مثيرة حقا، ولكن لمعرفة كل هذا يجب قراءة الكتاب. انتهت مداخلة الدكتور ديفيد بالكي. وانتهى عرض الكتاب.
كتبت هذه المقالة نقلا عن مجلة مكلين الكندية، ومجلة فورين بوليسي الأمريكية، ومجلة فانيتي فير الأمريكية، ومكتبة أمازون دوت كوم، وموقع دار جامعة كامبريدج للنشر، وغيرها من المصادر.
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب