* * منذ أن وقع بقلمه أولى خطواته الكتابية وحتى هذا اليوم الذي بدأ يتطلع فيه لمرحلةِ الهدوء بعيدًا عن ضجيج الحرفِ إلزامًا والتزامًا وهو ناءٍ بنفسه عن نقد المعينين بأسمائهم؛ فقد وعى في بداياته القرائيةِ المعارك الأدبية بين الكبار ورأى فيها ما لا يصحُّ بين الصغار، ويذكر أنه فرح حين أبلغه أستاذه الدكتور حسن الهويمل بوجود نسخة من كتاب «على السفُّود» في مكتبته المنزلية فحفزه للبحث عنه في مظانه؛ فلم يكن يخلو توثيق لمعارك الرافعي رحمه الله من إشارةٍ إليه، حتى إذا وجده رآه واجبَ الدفن؛ ففيه «مبنًى ومعنًى» ما يجعلنا ندعو الله للتجاوز عن كاتبه، وكذا كانت خصومات الرعيل الأول في زمننا موحيةً بكثيرٍ من الحدةِ وشيءٍ من الابتذال، ولعل جيل أساتذتنا قد تأثر بهذه الأجواء، وتبعهم تلاميذهم؛ فصرنا أقرب إلى السباب من الخصومة الثقافية الموضوعية.
* * ابتعد عن انتقاد الشخوص؛ فلم يسره يومًا ما قرأه وما شاهده، وركز على قراءة النصوص الثقافية العامة بلغةٍ تهدأ حينًا وتشتدُّ أحايين، وكان منها حين كتب عن مجموعة مظاهر رآها سلبيةً، وفيها: اختيار أكثر الصحفيين وسامة من قبل إحدى المجلات شبه النسوية، وكذا استغلال الكاتب لموقع ووقع قلمه لتحقيق أهدافه الشخصية، ومرت الأولى بهدوء، لكن الثانيةَ لم تعبر، ومع أنه لم يسمِّ أحدًا إلا أن كاتبًا تخيل نفسه المقصود؛ فهاج وماج، وابتدأ سلسلةً من المقالات نواها ثلاثين ثم اكتفى بثلاثة دون أن يعلم سبب وقوفه سوى ما قيل له عن عدم رضا رئيس تحرير الصحيفة بعدما استوعب الحالة (ولم تكن الجزيرة على أي حال).
توجه الكاتب لشخص صاحبكم؛ فسبه بل شتمه، ورغم كونه في مركز جيد بمعهد الإدارة حينها ويحمل شهادة عليا فقد ادعى أنه موظفُ أرشيفٍ مهمشٌ لا وزن له وأنه شؤمٌ على الصحافة، ونحو ذلك من موجع القولِ وسيئه وكاذبه.
* * لا ينكر أنه قد تألم طويلا؛ فليس أمامه سوى الألم ملاذًا، لكنه بقي صامتًا فلم يشكُ لأحد ولم يردَّ على السباب، وأحس أنه اختبارٌ إلهيٌّ لصبره ومهنيٌّ لهدوئه ومواصلته، وكان يمكن أن يهجر الصحافة بما فيها؛ فلم يأتها طامعًا وسيغادرها قانعًا؛ موقنًا أنه لم ولن يجعلها معبرًا لرغبات الذات ومكاسبها، ويحمد الله أن ليس في كل سجلاته وكلماته ما حقق له استفادةً أو استزادة.
* * والمفارقة أن من انتقده جاءه بعد أيام إلى مكتبه وكأن شيئًا لم يكن، لكن صاحبكم لم يلق له بالاً، وظلت في نفسه تلك الهجائياتُ المُسفة، ثم قابله مراتٍ أخر تبادلا فيها التحية، وأثنى ذاك عليه بما يزيد عما يعرفه عن نفسه، وكذا تجيئ محاكمة الشخوص عاطفيةً تتأثرُ بلحظتي غضب ورضا وما بينهما، وتعززت اقتناعاته أكثر بخلل التوجه للشخوص.
* * موقفٌ غير عابرٍ في حياته منحه قوة التحمل، وأكد له جدوى الترفع، ومضى غيرَ منجرٍّ لسجالاتٍ يرادُ إدخالُه فيها، ورأى أن الزمن هو الحاكم والمتحكم؛ فلن يجديه إعلاء ولن يبخسه إطفاء، ولولا أن المقام سيريٌّ لما أشار لما صار.
* * التفت لهموم التحرير المتزايدة في ظل تراجع مستوى الصحيفة التي يعشقها، لكن الصعاب كانت كبيرة، وأبرزها نأي المثقفين وانشغالهم بمعارك التكفير والتشهير؛ فكان الاستكتاب صعبًا والجمود أصعب، ولهما حكاية قادمة.
Ibrturkia@gmail.com
twitter:@abohtoon