يطل الروائي عبدالعزيز الصقعبي في روايته الجديدة "اليوم الأخير لبائع الحمام" على عوالم اجتماعية رحبة وسهوب حكائية أسرية مترامية تثير في القارئ رغبة المزيد في استقصاء حكاية الزمان والمكان الذي توارد على هيئة انثيلات وجدانية معبأة بالسرد، ومزخرفة بمعاني اللغة البسيطة، مستنبطاً عن خبرة ومران جوهر الحقيقة التي يبحث عنها من خلال وجوه وأحداث وعبر ومشاهد مر بها الراوي وعني في تفاصيلها، واقتفاء حساسية خطابها الموزع على هم إنساني وألق إبداعي حاضن للمفارقات جميعها.
الروية تحمل مضامين البوح الذي يعكس حاجتنا لالتقاط تفاصيل حكاية الشخوص الملهمين للراوي وعلى رأسهم مؤسس عائلة "الضبادي" - دخيل الله وأفراد عائلته التي حملت تفاصيل النص، حتى اصطبغت بهويته، ليشكل أمام القارئ بعداً تأثيراً فريداً ساهم في خدمة النص رغم محاولات الكاتب الصقعبي أن يعمد إلى استجلاب لغة هادئة تميل إلى السهولة واسترسال يتسم بالعفوية بغية إيصال النص إلى هدفه.
حيزي الزمان والمكان في الرواية واضحي المعالم، فالزمان في فضاء هذه الرواية مرتهن إلى قضية أسرة تشكلت في المكان، وكتبت لها الصدف المناسبة أن تعيش هذا العمر المديد ـ ثلاثة أجيال - هي حقبة (دخيل الله) و(أبنائه) ومن ثم (أحفاده) الذين واظبوا على تفعيل دور الأسرة لتظهر أمام الناس وكأنها عريقة في مجد بقائها وتضرب في عمق تاريخ المدن إلا أن الروائي الصقعبي أشار بذكاء أن المدن الجديدة ممثلة بالرياض صنعت للمتابع فضاء استقرائياً مدهشاً يحتاج بالفعل إلى تدوين ومتابعة.
فالمكان - الرياض العاصمة - والزمان بعمر ستة عقود قضتها (يمَّه فطيمه) حتى فارقت الحياة والنص في صفحته الستون أيضاً وكأن المفارقة طريفة حينما ماتت عماد بيت الضبادي قبل أن يشرع بائع الحمام في تفاصيل أيامه المليئة بالبؤس والشقاء.
فحينما نتأمل هذه الحكاية ندرك أننا في خلاصة حدث إنساني واجتماعي شديد التأثير وعميق التصور حينما وجدنا أن العائلة تتماوج بالتناقضات والتكوينات المتنافرة حتى بات هناك من يمتلك الملايين وآخرين يستحوذون على المناصب فيما هناك من يكابد شظف العيش والغرم والديون.. فنحن إذاً أمام معادلة إنسانية برع الكاتب في تكوينها.. فقطباها الإنسان والمدن ومركزها البحث عن هوية مناسبة في هذا العالم المتأرجح بين السفح والهاوية.
بيئة النص في الرواية تنحو إلى هوية مدن لا تتخلص من أعباء ريفيتها، بمعنى أن القالب العام أو الحاضن الرئيس في السرد هو المدينة والمزيج الاجتماعي فيها يتكون عادة من هذه الأسرة - الضبادي - وما شابهها ممن يحملون هوية القرى ويسكنون المدن..
فهم يلقون في الغالب أقنعة أصولهم وأهدافهم في سنوات الرخاء والتمازج الوجداني لكن سرعان ما يعودون إلى أصولهم وماضيهم ليقفوا قدر المستطاع في وجه التغيير حتى وإن كانوا عاجزين على نحو زواج "نوح" أبن الشخصية المحورية دخيل الله من أمريكية وتزويجه لأبنته من شاب عربي.
فالنص هنا مكتظ فعلا بصور تناقضات البيئة التي نشأت فيها هذه الأسرة وترعرعت على هامش الحياة أو على سفح منحدر الحضارة الذي لا يعرف نهايته وأن تنبأ أحد ما في محدودية أثرها وقلة قيمها لأسباب يصعب حصرها في مجرد رواية بفصل واحد.
شخوص الرواية واضحون، ومهامهم موزعة بدقة متناهية، فكان الصقعبي بارعاً في وصف أدوارهم وتوزيعها توزيعا منطقيا يتماشى مع رؤيته للنص الذي يريد من خلاله أن يثبت أن الحياة في المدن مرهونة إلى الصدفة والتقادم والمقاومة ومد جسور البقاء أطول مدة ممكنة على نحو ما فعل مؤسس العائلة في النص دخيل الله الذي وضع نصب عينيه أن الحياة قاسية وأليمة ولا بد من مقارعتها ومكاشفتها حتى وأن كانت هناك الكثير من المعاناة.
الشخوص الآخرين في الرواية من خارج العائلة محدودون جدا وحياديون حتى في مشاعرهم على نحو من ارتبط من الأبناء والبنات بأسر أخرى ومصاهرات كانت لا تخلوا من تمايز وتباعد بل وصراعات لا يخلو بعضها من القسوة والطرافة.
بل أن اشتراك الغرب والعرب في بناء هذه العائلة كان رغم محدوديته إلا أنه يظل عامل جذب يوحي بأن العائلة نجحت نجاحاً منقطع النظير حينما أسست لعالمها هذا البعد الحياتي المفضي إلى فهم حقيقي للعبة الحياة.
"بائع الحمام" - دخيِّل الحفيد - شخصية محورية أخرى تلي شخصية دخيل الله الذي عاود حياة الشقاء والبحث عن الذات رغم تغيرات الحياة من حوله.
فالحفيد المتزوج من سعاد وبعد صدامات حادة مع من حوله تعرض لسلسلة هزائم واخفاقات اجتماعية وعجز عن مواصلة التعليم وفشل في تواصله مع العمل الحكومي ليقرر أن يجد له بيئة حياتية جديد ة أخرى تبعده عن دائرة البشر وهموم الناس ونزوات الرجال وصخب النساء فلم يجد غير تربية الحمام والعناية بها ليعقد معها هذه الصلح ولتمتد مع الزمن ألفة عجيبة ساهمت في جعله ممتنا لهذه التجربة الفريدة.
* * *
إشارة:
* اليوم الأخير لبائع الحمام (رواية)
* عبدالعزيز الصقعبي
* دار أثر (ط1) 1433هـ - 2012م تقع الرواية في نحو (220صفحة) من القطع المتوسط
