لا علاقة لهذا العنوان بالمصطلحين المعروفين في دراسات اللغة والنحو، ولا بما يمت إلى الجذر بصلة مما ترسخ في ثقافتنا العربية عن العلاقات الإنسانية؛ خاصة ما تحدد من خلال مصطلح «الوصال» واستخداماته في الغزل ووصف ألم فراق الشخص المحبوب إلى غير ذلك مما تمتلئ به كتب أدبنا القديم والحديث.
ما أعنيه هنا هو اتصال مكونات المجتمع الواحد وانفصالها، أو العلاقات بين البقع الجغرافية المتصلة، وما ينشأ فيها من مد وجزر، ومن مباركة ومعاركة. فكيف نشأت أفكار هذه العلاقات، وكيف كانت مسيرة تطورها؟ معلوم أن الإنسان بدأ حياته باحثاً عن علاقات اجتماعية تربطه مع بني جنسه، وتساعده في التغلب على مصاعب الحياة، ودرء الأخطار التي تحيق به، مما يتطلب عملاً جماعياً لمنعها، أو إنشاء المستعمرات التي تعينه على حياة أفضل واستغلال أجود لموارد الطبيعة. لكن تلك المشاعر الفطرية تحولت مع الزمن إلى خصائص ذاتية؛ أصبح الإنسان يميز نفسه بها عرقياً وجغرافياً ودينياً، وارتسمت آثارها على قسماته شكلياً، وعلى سلوكه اجتماعياً وإحساسه نفسياً، ومظهره وطريقة عيشه.
وفي كل طفرة جينية تتغير طبيعة تلك العلاقات، وفهم الإنسان لمسلكها، وطرق انتفاعه منها، أو مدى تعلقه بها. فبعد توسع ملكات الإنسان اللغوية، سعى إلى اتصال مع المحيطين به، وتكوين جسور علاقات طيبة معهم؛ تحولت منذ بضع آلاف من السنين إلى مفهوم الدولة. لكنه ما فتئ يشذب في هذا المفهوم، ويهذب في ولعه به أو نفوره منه، إلى أن نشأت الدولة القومية منذ ثلاثة قرون؛ فأصبح العرق يتكتل بدلاً من الدين أو الانتماء الجغرافي، لتترابط مكوناته في نسيج واحد مستقل.
غير أن فلسفات العصر الحديث وعوامل الاقتصاد قد أطاحت بدوافع ذلك التكتل، بوصفه نزعات شوفينية، لا تخدم الإنسان الفرد، ولا تقدم له الرخاء المنشود. فظهرت في نهاية القرن الماضي اتجاهات نحو عولمة الاقتصاد وعولمة الاتصال البشري، وقبلها بعشرين عاماً كانت قد نشأت فكرة الاتحاد الأوربي (بلغات متعددة وثقافات وأعراق مختلفة)، وكذلك بعض الاتحادات الآسيوية التي قامت أساساً على التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري فيما بينها.
كانت ثمرة هذا الاتجاه قد ظهرت في تفكك الاتحاد اليوغسلافي خلال التسعينات من القرن العشرين إلى ست دول، وانضمام أحداها إلى الاتحاد الأوربي، وانفراط عقد الاتحاد السوفييتي إلى عدة دول؛ بعضها بقي موالياً لروسيا، وبعضها انضم إلى الاتحاد الأوربي، أو إلى بعض الاتحادات الاقتصادية الآسيوية. كما انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين (تشيكيا وسلوفاكيا)، وانضمتا إلى الاتحاد الأوربي.
أما الاتجاه الآخر، فهو ما يجري حالياً في سكوتلندا؛ البلد الذي عاش في اتحاد مع انجلترا وويلز لقرون طويلة، وأعطى تلك الجزيرة وحدتها، واستقلاليتها النسبية عن القارة الأوربية. وقد وقع رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون مؤخراً وثيقة تمنح الاسكتلنديين حق الاستفتاء على تقرير المصير. وكانت بعض دوافع ذلك الاتجاه القومي، كما سمعته في وسائل الإعلام البريطانية خلال الصيف المنصرم، التهميش الذي يشعرون به إزاء الإنجليز الذين يستولون على مغانم وحدة الجزيرة البريطانية، ولا يمثل الاسكتلنديون جيداً في الحكومة المركزية أو الإدارات الفاعلة، بل وحتى في الفرق الرياضية وإدارتها، كما كانت الحال في الألعاب الأولمبية الأخيرة التي جرت في لندن.
أما في منطقتنا العربية، فيمثل هذا الاتجاه انفصال جنوب السودان عن شماله على أساس قومي؛ وفيه ربما من الدوافع ما يشابه تلك التي شعر بها الاسكتلنديون. فهل البشرية سائرة في طريق الوصل أم في طريق الفصل، وأي الاتجاهين يكسب في المستقبل
مزيداً من المتانة؟
الرياض