تعدُّد الاتجاهات والميول والاهتمامات يُنبئ عن أنّ من يمتلك ذلك له من النفوذ المعرفي والدراية الثقافية الشيء الغزير، سواء على المستوى المدخراتي والمكنوني أو المقتطف والحصولي الفوري، والأجدر في ذلك هو حينما يُترجم ذلك في أعمالٍ ملموسة، سواء كانت على شكل نتاجٍ مطبوعٍ، أو بحوث منشورة، أو يتضمّن محاضرات وندوات، أو مشاركات علمية وثقافية، أو حتى على شكل مداخلات فورية من خلال تظاهرة أو نشاطٍ علميٍ أو ثقافيٍ وغيرها.. ولعل ما أشرت إليه يقل توافره وتوفره في كثيرٍ من الأشخاص أو من يتميّز به ثلة قليلة.. المهندس عبد الله عبد المحسن الشايب ممن يتلاءم وهذا المدخل وهذه المقدمة التي استهللتُ بها هذه الإطلالة في هذه العجالة..
المهندس الشايب والقصة القصيرة... تعرّفت على المهندس الشايب منذ أكثر من (11 سنة) حينما زرته في مكتبه لغرض هام يتعلق في الهندسة والبناء، وتكوّنت بيننا علاقة وتواصل، وفي إحدى الزيارات المتكررة والدورية له، وقبل تقريباً تسع سنوات، وقبل أن أنتهي من زيارتي تلك أهداني مجموعة من الكتب ومنها كتاب بعنوان «لا شيء أحسن» وهو عبارة عن مجموعة قصصية، والتي سرعان ما لفتت انتباهي كوني مهتماً بالكتابة والقراءة القصصية ولأنها الأقرب إليّ من الكتب.. شدّني عنوان المجموعة «لا شيء أحسن». المجموعة تضم عدداً من القصص القصيرة، وبعد فترة بسيطة من إهدائها قرأتها بكاملها، واحتفظت بالمجموعة كغيرها من الكتب على أرفف مكتبتي المتضخّمة بالكتب على اختلاف توجُّهاتها وموضوعاتها، وإنْ كان الأغلب منها يتعلق بالأدب والثقافة العامة والدينية..
من خلال البحث عن مطبوعٍ هامٍ، قد فقدته ويهمني كثيراً في هذه الفترة، ظهرت لي فجأة مجموعة «لا شيء أحسن» وتركت البحث عن الكتاب الغاية، وأخذت أقرأ فيها للمرة الثالثة أي قرأتها قبل تسع سنوات، ورجعت بخيالي إلى تلك الفترة حينما أهدانيها الشايب، وتذكّرت قوله : « أتمنى أن تقرأها وكأنك لا تعرفني « حينها لم أدرك معنى هذه العبارة، واليوم كأنني أدركت ما يرمي إليه بل تيقّنت من ذلك وتأكد فهمي لها بعمق.! وإنني في هذه العجالة أقرأ هذه المجموعة قراءة انطباعية.
«لا شيء أحسن» تضم عدداً من القصص القصيرة موزّعة ومنثورة في 104 صفحات من القطع الصغير - الطبعة الأولى 1422هـ إصدار دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، وقد تضمّنت القصص العناويين التالية: الراية / عاشق الطيب / البقاء للجمل / عين الحسود ما تسود / الحقيقة طايرة / البقرة الضائعة / قف.. ومن أنت / بين السلة والذلة / فقاعة / التمرة قالت لا / الاجتماع الأخير / بدء وعود / يا صابر لك الله / لا شيء أحسن، وهذه العناوين تشكِّل جزئية من النص إلاّ أنّ بعضها لا يرتبط بالنص، كما في قصة « لا شيء أحسن « وجاءت تقليدية كما أنها، أي المجموعة، تندرج تحت القصص الكلاسيكية. ولفت انتباهي عنوان قصة (بين السلة والذلة)، وكأنه استعار هذا العنوان من مقولة تنسب للإمام الحسين (ع) : «... ألا أن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة..»
بطبيعة الحال الــ «لا شيء أحسن» لا تمثل النضج الذي وصل إليه الشايب اليوم، فاليوم هو الأمس وهو الغد للشايب في الفكر والتوجُّه والرؤى والمبدأ والقناعة والمنهج، ولكنه في الإبداع والتجديد تشكل الشايب ودخل مرحلة جديدة وناضجة مقارنة بالماضي، وأعتقد أنّ المجموعة كُتبت قبل تاريخ الطبع والنشر بفترة طويلة وربما هذا ليس ببعيد عن الحقيقة، فلغته وشاعرية أسلوبه كما في كتابه (وأمطر الجسد.. بيروت إلك حبي) تختلف عن لغة هذه المجموعة، فلغته وأسلوبه في تقافز نحو الجمال الإبداعي، وإنْ كانت هنالك بصمة مشتركة بين نتاجاته الفكرية والأدبية والتراثية والثقافية، وهذا ما يميّزه عن غيره.. من يقرأ في نتاجه أياً كان نوعه وجنسه يستشف بصمته فيه، والتي تمثل شخصيته وفكره وهذا يحسب له إيجاباً.
استفاد المهندس الشايب من اهتماماته التراثية ومدخراته الأدبية ووظّفها في مجموعته، وهذا ما تميّزت به أغلب نصوصها، حيث كثيراً ما كان التراث متواجداً فيها، ويُعد هذا في حد ذاته ترابطاً بين الأدب والاهتمام المهني إنْ صحّ أن نصنّفه أو نسمّيه، فقد وردت عدة مفردات تراثية مثل : الخطة - الحصير - المقحام - العريش - الخية - الوجاغ - الثبارة - وسادة الليف وغيرها، كما كانت اللغة المحكية الأحسائية متواجدة في بعض نصوص المجموعة مثل:
«الله يمسيش بالخير»
«أشلونش وأشلون الولد»
«أنت بعد روح ويانا»
«أى وين يمه»
«يالله يا حجية نبيش تهزي الراية على الولد»
وقد زخرت بها قصة (الراية) وأعطتها هذه اللهجة بُعداً تراثياً وشعبياً وانعكس عليها جمالاً، وجاء أيضاً في ص 37 قصة (الحقيقة طايرة) قال فرغلي: «هذا سعر السوق يصلح لك يا بيه وإلا فاتركه» وكأنّ المخاطب هنا من غير سكان البلدة، وفي ص 38 من نفس القصة :... تمتد إليهم الأيدي والأرجل وتعفس بضائعهم» وغيرها، بأسلوب جميل يقل من يستخدمه من كتّاب القصة، وهذا الاستخدام يتناسب وغرض القصة، كما جاءت في بعض حوارات شخوص القصة، ولم يعب ذلك من بناء الأسلوب القصصي من وجهة نظري.
قصص المجموعة تمثل بمجملها قضايا اجتماعية وفكرية وعقدية، وبفلسفة خاصة، وهذا ما لاحظته في قصة (الراية) وقصة (قف.. ومن أنت) وقصة (فقاعة) وقصة (الإجماع الأخير)، وكذلك بقية نصوص المجموعة، وكون المجموعة طُبعت ونُشرت قبل تسع سنوات، فإنها تحاكي تلك الفترة وما قبلها، وإنْ كانت تُضيء إلى المستقبل ببعض الإشارات أو ما يترتب عليها من خلال أحداثها، والمجموعة بأغلب نصوصها موجّهة للعامة والخاصة وليست مخصوصة بالنخبويين، وهذا طبيعي في الإبداع الأدبي وخاصة السردي منه كالقصة والرواية، وقد أوصل الشايب رسالته وهدفه من خلالها.. فلغة المجموعة جاءت سهلة وكأنها تقترب إلى اللغة المحكية (اللهجة المحلية) وكذلك جاء أسلوبها وعرضها وهذا لم يضعفها بل ميّزها، وقصص المجموعة تحمل في مضمونها رسائل ضمنية تارةً وصريحة تارةً أخرى، وكأنها قابلة لأكثر من تأويل، شخوص النصوص تتلاءم والأحداث التي تقوم بها، لذا استطاع الشايب أن يوظف الشخصية في القصة وتتلاءم والمهمة المنوطة بها، وما يتناسب معها في الميول والاتجاه الذي تقوم وتؤمن به، ولم ألاحظ أنّ هنالك تناقضاً بينها، ولم تحمل القصص رمزية، وإنْ كانت موجودة فهي ليست بالعميقة..
تطرّقت نصوص المجموعة كما في قصة (الراية) وقصة (قف.. ومن أنت) إلى معتقدات ومبادئ ذات أهمية كبرى، كما أنها تشكّل طقوساً معيّنة، وقد سلّط الضوء عليها، وكأنه يريد إيصال مفهوم معيّن وأعتقد أنه نجح فيما كان يرمي إليه، فالأيديولوجية كانت حاضرة وبشدة.
وتبقى « لا شيء أحسن « مجموعة قصصية انفرد بها الشايب بأسلوب خاص يحمل بصمته الخاصة، وهي تمثل نتاجاً أدبياً يضاف إلى مكتبته والتي بمحتواها تضاف إلى التضخُّم الإبداعي والأدبي والثقافي والعلمي والتراثي الذي تشهده الأحساء..
«لا شيء أحسن» عنوان للمجموعة وهو عبارة عن عنوانٍ لإحدى القصص التي تضمّنتها المجموعة، وهذه القصة في كامل محتواها بعيدة عن العنوان، وهذا ربما فلسفة وتعمّد من الشايب، أراد به شد وجذب القارئ، وبالتالي يضع القارئ في تساؤل وعصف فكري وذهني، وقد نجحت فلسفته في تلك.. ويبقى أن نقول: إنّ «لا شيء أحسن» مطبوع أدبي له مكانه بين الكتب الأدبية في أحسائنا الحبيبة، وقد ظهرت قدرته على مسك العصا من المنتصف وتمكنه من كتابة القصة القصيرة بشكلها التقليدي بكل عناصرها ومكوّناتها، وهذه ميزة تضاف إلى توظيفه للمفردات التراثية في سرده القصصي.. ونبقى أن نشير وكما أشرنا سابقاً إلى أنّ هذه المجموعة من النتاجات الأولية للشايب.
قصص المجموعة تنوّعت في مضامينها وإنْ اشتركت في بعض أهدافها وغاياتها، ولكن ما لاحظته ويلاحظه من يقرأها أنّ شخصية العمدة أو رجاله طغت وكانت متواجدة في (9) قصص من واقع (14) قصة وخاصة في القصص الأخيرة ولم تختف إلاّ في (الاجتماع الأخير) والذي توقّعت أن تكون موجودة فيه، وإنْ دل ذلك إنما يدل على هيمنة العمدة وتسلُّطه في المساحة الجغرافية (القرية) التي يتسيّدها بهيمنةٍ وتسلُّطٍ قاسٍ، وهذا يعكس صورة سلبية للعمدة كما صوّرها المهندس الشايب في أغلب النصوص.. العمدة ربما هو سلطة وجاهية، ولكن بهذه الصورة التي نقلها إلينا الشايب تتغيّر النظرة إليه وتصبح نظرة سوداوية، وهذا ليس تعميماً ولكن في العمدة الذي اختار شخصيته المهندس الشايب، وشخصية العمدة أو رجالاته كانت متواجدة في القصص التالية : البقاء للجمل / فقاعة / الحقيقة طايرة / بدء وعود / قف.. ومن أنت / بين السلة والذلة / التمرة قالت لا / يا صابر لك الله / لا شيء أحسن.. وزُوّدت المجموعة ببعض الرسومات الرمزية والتي أضافت بُعداً جمالياً لها، ولكن هنالك شبه فجوة بين مضمون القصة ورمزية الرسمة أو اللوحة، وما كانت قراءتي وعرضي لها إلاّ أنها تحمل طابعاً وموروثاً أدبياً وتراثياً أحسائياً، وإبداعاً سردياً من فصيل القصة القصيرة، وفي الوقت ذاته تحمل رؤىً ذات مدلولات لها أبعاد في اتجاهات متعدّدة وعديدة، وهي تشكل جزئية من إبداع ورؤى وأفكار المهندس الشايب، وتبقى «لا شيء أحسن» نتاجاً وبصمةً من بصماته الإبداعية في جنس القصة القصيرة، وفي نهاية قراءتي هذه (أصر) على أنّ هذه القراءة انطباعية لا تمثل أكثر من ذلك.
Albatran151@gmail.com
الأحساء