يرمي هذا المقال إلى البحث في طبيعة المسرح السياسي في الأدب العربي الحديث ونشأته ومدي تطور الصيغ الجمالية والفكرية التي صاحبت هذا اللون الحديث من المسرح في النصف الأخير من القرن العشرين، كما يطرح المقال الروافد الغربية المتنوعة التي أثرت في تكوين وتشكيل اللبنة الأولي للمسرح السياسي في العالم العربي وكيفيه الاستجابة العربية لتلك المؤثرات وسعيها للبحث عن شكل مستقل للمسرح السياسي يعبر عن وجدان الشعوب العربية وعن تراثها وقضاياها.
ارتبطت نشأة المسرح السياسي في الوطن العربي بتطور الحركة المسرحية في الغرب خاصة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فقد توقف رواد المسرح هناك أمام المستجدات السياسية والاقتصادية التي أخذت في التشكل في ذلك الوقت ومع انتشار الفكر الماركسي والاشتراكي، اتجه العديد من المسرحيين إلى استحداث وسائل وطرائق فنيه تعبر عن الموجات الفكرية والسياسية في ذلك الوقت وكان كتاب المخرج المسرحي الألماني إيروين بيسكاتور الذي يحمل اسم «المسرح السياسي» الذي صدر في عام 1929 وهو يعد الكتاب الرائد في ذلك الحقل المسرحي. وتبع هذا الكتاب عدة عروض مسرحية تتبني منهجا جديدا في نقد المجتمع والسلطة وتعتمد علي وسائل فنيه تتمايز في جوهرها وشكلها عن أدوات المسرح التقليدي فكان استخدام الراديو في المسرح وكذلك الصحف اليومية وأيضا الحوار المباشر مع الجمهور والذي مثل «صدمة» كبري عند المتفرجين فعن طريق الحوار مع الجمهور سعى رواد المسرح السياسي الأوائل مثل الألماني برتولت بريخت إلى كسر الإيهام وهدم ما يسمي «بالحائط الرابع « أو fourth wall»» وهو حاجز متخيل بين الجمهور والممثلين وعن طريق تقنية التغريب «Defamiliarization» يحاول المؤلف المسرحي استحداث وسائل وتقنيات من شأنها إخراج المشاهد من فكرة المسرح التقليدي وإعطائه انطباعا أن ما يحدث أمامه هو عمل تمثيلي والهدف من وراء ذلك هو تأسيس حوار واعي وعقلاني مع المشاهد في صالة العرض فالمسرح السياسي يختلف في جوهرة عن المسرح التقليدي في طبيعة القضايا المطروحة وكيفية طرحها ومن هنا يمكن لنا أن نناقش ماهية المسرح السياسي وطبيعته في السياقين الغربي والعربي.
في السياق الغربي، يناقش مايكل باترسون في كتابة « إستراتيجيات المسرح السياسي» 2003 of «Strategies Political Theatre» تعريف المسرح السياسي فيقول إنه « أحد فنون المسرح التي لا تصور فقط التفاعل الاجتماعي والأحداث السياسية، بل توحي بإمكانية التغيير الجذري المرتكز على خطوط اشتراكيه مثل القضاء على الاستبداد والظلم، واستبدالهما بتوزيع أكثر عدالة للثروة ونظم أكثر ديمقراطيه»( 4). ويتبين من هذا التعريف وبوضوح هوية المسرح السياسي التي تنبني على منطلقات إيديولوجية ماركسية تنادي بالتحريض والثورة وتحث الجمهور علي تغيير الواقع المعاش وفكرة الثورة والتغيير تحديدا هي الفكرة الأكثر تداولا في أدبيات المسرح السياسي فهي المحدد الأول لطبيعة ذلك المسرح وكذلك هي التيمة الأكثر تداولا بين المؤلفين المسرحيين في هذا المجال. وقد ترك بريخت تأثيرا كبيرا على كتاب المسرح السياسي في العالم العربي كما أن غالبية أعماله المسرحية قد ترجمت وعرضت علي المسارح العربية في مصر وسوريا إلخ.
ومع انتشار المد الماركسي في الستينيات، أصبح بريخت ومسرحه الملحمي هما الطابع المميز للحركة المسرحية العربية، فقد اقتبس المؤلفون العرب العديد من تقنيات مسرح بريخت خاصة أنها تتشابه مع بعض الوسائل الفنية المرتبطة بالتراث العربي مثل تقنية الراوي والحكواتي والقصة الشعبية، وقد برز انصهار المسرح البريختي مع التقاليد التراثية العربية في أعمال الكاتب المسرحي العربي سعد الله ونوس الذي جعل مشروعه الفكري هو إقامة مسرح ذو هوية عربية شكلا وموضوعاً وفي إطار سعيه للبحث عن جذور للمسرح العربي وجد سعد الله ونوس ضالته في التراث الذي رآه معينا لا ينضب من الموضوعات المختلفة التي تعد صدي للواقع العربي بكل مزرياته وسقطاته. وكانت قصص ألف ليلة وليله هي المورد الأول لمسرح سعدالله ونوس ثم كان التاريخ العربي وفتراته الحرجة هي الرافد الثاني والذي تبعته الحكاية الشعبية والتراث الفوكلوري الذي رآه ونوس ممثلاً لطفولة الإنسانية ونضجها على السواء. ويعد سعد الله ونوس من المؤلفين المسرحيين الذين أثبتوا قدرة المسرح العربي على امتصاص المؤثرات العالمية مع الاحتفاظ بالهوية العربية شكلا ومضمونا وقد تبلورت تلك القدرة في «مسرح التسييس» الذي أخذ ونوس علي عاتقه مهمة تطويره من خلال التجريب ويميز ونوس بين بالمسرح السياسي ومسرح التسييس بقوله « إن هناك فارقا كبيرا بين «المسرح السياسي» و»مسرح التسييس» ... وأحدد بسرعة مفهوم هذا «المسرح» على أنه حوار بين مساحتين. الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره. والثانية هي جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته». وقد ترجم ونوس أفكاره النظرية في العديد من أعماله الإبداعية مثل «مغامرة رأس المملوك جابر» و»الفيل يا ملك الزمان» و»الملك هو الملك» التي تعري الإنسان العربي وتفضح سلبية الطبقات الشعبية المسحوقة وتدين الدور الاجتماعي والسياسي للنخب العربية في الماضي والحاضر، ويحاول ونوس في هذه النصوص استنهاض وعي هذه الطبقات واستثارة فعلها الإيجابي الخلاق كي تسعى إلى تغيير عالمها، كما ترتبط صورة المجتمع عند سعد الله ونوس بالإرث التاريخي وبموروث البطش والطغيان الذي أثر في المجتمع العربي على مر التاريخ حيث سعى ونوس إلى تشريح بنية المجتمع العربي بمسرحة القهر، وإذا بنا أمام عقل مهزوم تاريخياً، وعدالة مفقودة، وسلطة مستبدة، حوّلت الإنسان العربي إلى كائن مقهور يخشى أن يفكر أو يتكلم. ومن خلال إستراتيجية مسرح التسييس، يضع ونوس مسؤولية الهزيمة الحضارية على الجميع ولهذا فقد رفض الصيغ المسرحية الجاهزة، داعياً إلى مسرح شعبي فعّال يعتمد على التجريب والتفاعل اليومي مع الجمهور.
وعلى المستوي النقدي، قدم النقاد العرب تعريفات شتي لمصطلح المسرح السياسي فيميز الدكتور عبدالعزيز حمودة بين نوعين من المسرح هما «المسرح السياسي» والمسرح ذو الإسقاطات السياسية» حيث يشير الأول إلى «استخدام خشبة المسرح لتصوير جوانب مشكلة محددة - غالباً ما تكون سياسية، وقد تكون اقتصادية - مع تقديم وجهة نظر محددة بغية التأثير في الجمهور أو تعليمة بطريقة فنية تعتمد على كل أدوات التعبير التي تميز المسرح عن كل ضروب الفنون الأخرى» أما «المسرح ذو الإسقاطات السياسية» فهو المسرح الذي توجد في خلفيته بعض الإشارات السياسية لكنها لا تحتل الجزء الأكبر من العمل المسرحي كما أن المؤلف المسرحي لا يكتب العمل لخدمة هذا الهدف وهو ليس ملزما بالاعتماد علي الواقع التاريخي أو غيره مما يحتوي علي دلائل سياسية وفي ضوء هذا التعريف لا يمكن- كما يري دكتور حمودة- أن نعتبر مسرحيات شكسبير مثل «يوليوس قيصر» أو «الملك لير» مسرحيات سياسية بل مسرحيات لها إسقاطات سياسية في وقتها.
ويرى دكتور مصطفي عبد الغني في كتابة «المسرح المصري في الثمانينات» 1995 أن مصطلح «المسرح السياسي» يمكن تعريفه من خلال ثلاث دوائر متداخلة « الدائرة الأولي فيه، هي التي تحدد التعريفات الثلاثة: العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية ، وفي اتساع الدائرة الثانية نلحظ احتواء التيارات الاجتماعية والاقتصادية وقد تتسع الدائرة الثالثة إلى أن المسرح يحتوي آفاقاً أبعد من هذا». كما يحدد سعد أردش في كتابة « المخرج في المسرح المعاصر» 1979 مفهوم المسرح السياسي بأنه المسرح الواعي الذي يسعى إلى تأثير إيجابي محدد في الجماهير بهدف ضمها إلى كسب عناصر جديدة تناضل من أجل حياة أفضل مرتكزة على العدالة الاجتماعية وتسودها الحرية والمساواة.
وفي ضوء التحليلات السابقة، على اختلافاتها، يتبين لنا أنه في إطار تكوين تأطير نظري وإبداعي لمصطلح المسرح السياسي في العالم العربي، فإن المبدعين من المسرحيين العرب قد تأثروا في بداياتهم بالروافد الغربية للمسرح السياسي إلا أنهم في مرحلة لاحقه قد استوعبوا تلك المؤثرات ولقحوا بها إنتاجهم على مستوى التنظير وعلى مستوى الإبداع فكان مسرح سعد الله ونوس شاهدا على تلك الأصالة العربية التي تنافس في مقدرتها الفنية العديد من الأعمال العالمية حسبما يرى كاتب هذه السطور.
essamok@hotmail.com
الرياض