ومن أبرز مشكلات نقدنا المعاصر التي تؤزِّم من وضعه وتَجعل كثيراً من الدارسين يفرُّ من التحليق في فضاءاته: غياب الممارسات التطبيقية بشكل شبه تام، والتركيز المبالغ فيه على النقد النظري والاحتفاء به على حساب النقد التطبيقي، ومن المعلوم أنَّ النقد -ابتداءً- لا يوجد إلا بعد أن يوجد النص الإبداعي الذي يتولى هذا النقد صقله وتوجيهه، ورغم ذلك نلاحظ في مطالعاتنا الإعلامية والأكاديمية طغيان النقد النظري بشكل لافت، فأغلب الكتب المؤلفة فيه، وأكثر المقالات المدبَّجة حوله، فهذا يُذكِّر بنظريةٍ قديمة، والآخر يدعو إلى نظريةٍ جديدة، حتى الملتقيات والأمسيات تَحوَّلت للبحث في قضايا النقد النظري، وإشكالاته التي لا تنتهي، ومصطلحاته الهلامية التي ربَّما اختلف مفهوم واحدٍ منها إلى عشرات المفاهيم عند الناقد الواحد!
ثُمَّ إنَّ أغلب هذه البحوث والمقالات التي تتناول النقد النظري وقضاياه عادةً ما يكون الخطاب فيها نَخبوياً مُوجَّهاً إلى فئةٍ خاصَّةٍ من المثقفين، وبالتالي تكون الفائدة منها مَحدودةً جداً، ولا شكَّ أنَّ الكاتب حينما يؤلف كتاباً أو ينشر مقالاً فإنه يطمح إلى استقطاب أكبر عددٍ من القراء؛ لِمشاركتهم هذه الفكرة، وترقُّب ردَّة الفعل التي تصدر من بعضهم؛ مِمَّا سيثري موضوعه، ويفتح في ذهنه آفاقاً جديدة ورحبة لكثيرٍ من جوانبه.
إنَّ هذا الوضع الذي عليه نقدنا المعاصر يوحي إلى الكثيرين بأنَّ هذا الفن الجميل والإبداع المتألق ما هو إلا مَجموعةٌ من النظريات الجافَّة التي تكدَّست على مرِّ الأزمان، يتناقلها النقَّاد، ويَختلفون حولَها، فيزيدون وينقصون، ويؤيِّدون ويعترضون، وفي النهاية يتَّفقون على عدم الاتفاق، ويَخرج المتلقي بعد هذه المعارك دون طائل بعد أن خاب ظنه في هذا الفن الذي كان قد تصوَّر أنه مَنبعٌ للإبداع، ومَنجمٌ غنيٌّ لإظهار المواهب، وسبيلٌ للكشف عن مستوى ثقافة الناقد، وطريقة تفكيره، وجَمال أسلوبه ولغته، وذلك من خلال نقده للنص، وتعامله معه، وقراءته لأبعاده وزواياه، وبالتالي الاستفادة من هذه التجربة وغيرها في التعامل مع النصوص وطريقة تذوقها ونقدها والاستمتاع بها، وهذا الظن هو الذي يُفترض أن يكون في دراستنا للنقد وتدريسه.
والحق أنه لا أحد ينكر وجود دراسات تطبيقية للنقد، لكنني أزعم أنَّها قليلة جداً مقارنة بالدراسات النظرية، كما أنني لا أنكر فائدة هذه الدراسات النظرية للنقد، لكنني أدعو إلى مزيد من الاهتمام بالدراسات التطبيقية؛ لأنَّها هي التي تُحقِّق الفائدة المرجوة من هذا الفن بوضوح وفاعلية؛ ولذا فإنني أدعو النقاد إلى انتهاج هذا النهج في تأليف كتبهم، وإبداع مباحثهم ومقالاتهم، فبدلاً من تقرير قواعد وصياغة نظريات ربَّما لا وجود لَها على أرض الواقع فلنتجه إلى ديوان شاعر أو قصيدة منه أو رواية أو أي عملٍ أدبي إبداعي ولنقرأه قراءة تأملية نقدية، ونطبق عليه ما نريد من تلك النظريات، وبِهذا تَحصل الفائدة والمتعة للجميع، فالناقد من جهة وجد أرضاً خصبةً لإبداء آرائه وتوجُّهاته وما صاغه من نظريات، واستطاع أن يبدع وينقد ويتعامل مع النص بأسلوبه ولغته مُظهراً موهبته من جهة أخرى، كما أنَّ القارئ استطاع أن يفهم تلك النظريات الموضحة بالمثال الحي المباشر من جهة، واستمتع بقراءة الناقد للنص؛ مِمَّا فتح أمامه أبعاداً رؤيوية وفضاءات واسعة للتأمل من جهة أخرى، وبالتالي الحكم بعدلٍ واطمئنانٍ على العمل الأدبي والقراءة النقدية، وهو الأمر الذي نفتقده في نقدنا المعاصر الذي لا نَجد فيه سوى تنظير وتقعيد وتقنين تَحوَّل معها هذا العلم الجميل والفن البديع إلى هرطقاتٍ وفلسفاتٍ هو منها براء.
Omar1401@gmail.com
الرياض