سلمان الأفنس ملفي
عضو هيئة الصحفيين السعوديين
إذا أردت أن تعرف نهضة أمة فعليك بالنظر إلى ثقافتها ومثقفيها، والمؤيدين لهم، والمشجعين والراعين الرسميين لإنجاح عجلة التنمية والثقافة والفنون والمجتمع والحياة.
إن شاطئ الثقافة والمثقفين قد أدرك أهميته ربان السفينة السعودية الحديثة الكبرى الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - ومَن جاء بعده من الملوك الأبرار إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي هو كربّان السفينة، يوجهها إلى خير المملكة العربية السعودية ورفعتها ونهضتها؛ فالثقافة هي عنوان الأمة، ورمز حضارتها؛ فهو قائد لسفينة الثقافة التي تمخر العباب تحت راية وعلم دولتنا السعودية الحديثة.
إن الثقافة جسر الحضارة الذي تعبر فوقه الأمم إلى آفاق كونية أكثر جسارة وسموقاً وتعاوناً من أجل إحداث تنمية دولية ثقافية أكثر ارتقاء وتقدماً، ويتجلى ذلك من خلال علاقات التوأمة بين العلاقات التاريخية الثقافية السعودية المغربية.
الناظر للعلاقات الثقافية بين المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية ودول المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب) سيجد أن تلك العلاقات ليست حديثة بالطبع؛ بل هي قديمة ومتواشجة، وأزعم أنها تمتد إلى عصور الفتوحات الإسلامية؛ حيث كان المغرب العربي بوابة العبور الأولى؛ ليعبر القائد العربي موسى بن نصير، ومعه قائد الجيوش طارق بن زياد، المحيط العربي لنشر الإسلام واللغة العربية والثقافة العربية إلى الأندلس، ومنها إلى أوروبا، حتى وصلت تلك الفتوحات إلى الصين، كما يعرف الجميع.
لقد قامت دعائم المملكة العربية السعودية على دعوة الإسلام النقية الشاملة الخاتمة، كما في الكتاب والسنة، تلك الدعوة التي رعاها الإمام محمد بن سعود والمصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيراً - وهي دولة الدعاة إلى الله، ترعاهم، وتمكن لهم، وتعينهم على قيامهم بواجب التعليم والتوجيه والدعوة.
لقد كان إعداد الدعاة والعلماء، وإرسالهم إلى المدن والقرى وإلى البوادي والحواضر، وإلى مختلف بلاد المسلمين، سنة حميدة سارت عليها دولة الإمام محمد بن سعود، واستمرت في الدولة السعودية، إلى عهد موحدها وباني نهضتها في القرن الرابع عشر الهجري، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الذي اهتم - رحمه الله - اهتماماً خاصاً بالعلم والدعاة؛ فوفر لهم متطلبات الدرس والتحصيل، وطبع الكتب، وبعث الرسائل، وأوفد الدعاة والعلماء إلى مختلف مناطق المملكة، وإلى مختلف أماكن العالم، حيث تكون الحاجة.
وتكامل الأمر واستتم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - ثم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - نصر الله به دينه، وأعلى به كلمته - فأُنشئت الجامعات والمعاهد الإسلامية، وأُقيمت مؤسسات الدعوة ومراكزها في الداخل والخارج، وأُرسل الدعاة والعلماء إلى مختلف بلاد العالم، وأُقيمت المراكز والمساجد في أوروبا والأمريكتين وأستراليا وآسيا وإفريقيا على نفقة المملكة، وأُسست المنظمات والهيئات الإسلامية، وقُدم لها الدعم الوافي، كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وغيرهما، وعُقدت المؤتمرات والملتقيات لمفكري المسلمين وعلمائهم ودعاتهم، كما استقدم أبناء المسلمين للدراسة في جامعات المملكة ومدارسها ومعاهدها.. ولقد وُفرت السبل المناسبة للدعوة والدعاة. وبهذا يحق أن تكون المملكة العربية السعودية «دولة الدعوة والدعاة»، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
هذا، وقد دأب الملك عبدالعزيز منذ توليه على تطبيق الشريعة الإسلامية في بلد الإسلام والمسلمين؛ لتكون السعودية أول دولة عربية إسلامية تطبق منهاج رب العالمين، في وطن فيه كعبة الله تحيط أرجاءه ومدينة النبي (ص) تغمره بعطر النبوة، ترسي القيم الإسلامية العظيمة التي أرسى دعائمها سيد البشرية المصطفى عليه أذكى الصلاة وأعظم التسليم.
وقد كان للملك ما أراد؛ فارتاحت الأمة، وانكشفت الغمة، وعلت رايات العلم والثقافة والمدنية الحديثة في كل أنحاء البلاد بفضل الحكمة الثاقبة للملك عبدالعزيز ولكل الملوك أبنائه الأخيار الأبرار من بعده، الذين جاؤوا وساروا على منهجه؛ فغدت بهم المملكة حديقة تحرسها عناية الله، ومملكة تعمر أرجاءها الثقافة، وتفتح أبوابها للعلم والعمران والتمدين والأمن والسلم والسلام، مملكة للإنسانية أجمع.
إن المملكة تنفرد عن غيرها من البلاد؛ إذ بها الحرم النبوي الشريف، وكعبة الله، ومسرى النبي (ص) ومزار الأنبياء والمسلمين جميعاً، كما أن نظامها يستقي مادة دستوره من الدستور الإلهي، ومن منهاج القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة؛ فغدت مختلفة عن الممالك والمدن والبلاد، بفضل تطبيقها لشرع الله وحكمه في كل أمورها الحياتية الدنيوية.
كما أن احترام حرية الأديان مبدأ ثابت عند الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ فنراه يجمع المثقفين والعلماء ورجال الدين حوله، ويشاورهم، ويشرح لهم أفكاره لبناء الدولة الحديثة، مع التمسك بالتقاليد العربية الإسلامية، والهوية العربية، والقومية، والوحدة؛ ولهذا قامت الوحدة العربية على أساس راسخ من العقيدة، وتطبيق مبادئ الإسلام السمحة، واحترام حقوق الإنسان، والحريات الدينية، وعدم المساس بعقائد أصحاب الديانات الأخرى، واحترام قيمة الإنسان الفرد، لمعرفة حقوقه، ومعرفة واجباته أيضاً؛ فشارك الجميع في الأفكار، وقرّب إلى مجالسه المبدعين، والشعراء، والعلماء، واتخذ منهم وزراء ومستشارين؛ فتم بناء الدولة المدنية على أساس ديني إسلامي تنويري؛ فغدت الثقافة السعودية مادة تدرّس في مناهج العالم التربوية، وغدا النظام السياسي السعودي أكثر تميّزاً ووضوحاً عندما نقارنه بالدساتير والقوانين العالمية؛ إذ عالمية الإسلام وكونيته تنبعان من تنوير نبوي، استمده النبي (ص) من منهاج الله لعباده. وبذلك الفكر الثقافي، الديني، التنويري، العالمي، قام النظام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي للمملكة، على احترام قيمة الإنسان، وإعطاء حقوقه، وتحمّل مسؤولياته؛ فأحب الجميع الملك العادل المحبوب المثقف المستنير، خادم الحرمين الشريفين، وملك الإنسانية، والأمة العربية والإسلامية؛ إذ إنه ملك أكبر دولة إسلامية في العالم العربي والشرق الأوسط.
(الإمام محمد بن سعود والعلاقات الثقافية والدينية مع المغرب العربي):
لقد كانت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والمغرب العربي علاقات تاريخية منذ القدم. هذا، ويعتبر الإمام محمد بن سعود آخر أمراء الدرعية، وأول الأئمة من آل سعود، ومؤسس الدولة السعودية الأولى، واستطاع بجهاده أن يوحد معظم الأجزاء الوسطى من نجد تحت راية التوحيد، كما استطاع الإمام أن بتصل بالمغرب العربي آنذاك لنشر دعوته إلى دين الله - عز وجل - بعد أن انتشرت البدع في الممالك والدول آنذاك، وكانت له صلات عميقة بملك المغرب والبلاط السلك/ طاني المغربي، كما سنوضح لتدلل إلى عمق جذور الثقافة السعودية المغربية.
ففي المغرب العربي تأثر بالدعوة الوهابية - آنذاك - عظمة (سيدي محمد بن عبدالله) الذي حارب الصوفية متأثراً بكتب وآراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك (مولاي سليمان) الذي قام ضد الزوايا، ودعا إلى التوحيد.
(وثيقة نادرة.. رسالة الإمام سعود ابن عبدالعزيز إلى البلاط السلطاني بالمغرب العربي):
وجَّه الإمام سعود بن عبد العزيز بعد افتتاحه الحجاز وتطهيره مما كان فيه من البدع رسالته التي شرح فيها مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغاياتها. وقد تولى الرد على رسالة الإمام سعود بأمر من السلطان المولى سليمان وعلى لسانه أحد مرموقي علماء البلاط السليماني وأدبائه، وهو حمدون بن الحاج السلمي، وصاغ هذا الرد في قصيدة في تسعة وتسعين ومائة بيت، تتخللها تعليقات وشروحات نثرية من بحر البسيط وقافية الميم، افتتحها بالتعبير عن شوقه للمواطن الحجازية حيث تربة رسول الله (ص) المزرية بالمسك. وقال الشاعر المغربي يمتدح السعوديين الذين وصفهم بالجيران والأهل:
حق الهناء لكم جيران ذي سلم
وبارق واللوى والبان والعلم
قدستم أنفسنا أهيل كاظمة
وساكني المنحني والواد من أضم
هل المقدس غير واد فاطمة
وهل طوى غير ذي طوى من الحرم
أراك يا وادي الأراك مقتطعاً
من جنة الخلد في وسم وفي نسم
وكيف لا ورسول الله تربته
هناك مزرية بالمسك والزهم
وثنى على هذا بالصلاة على رسول الله (ص)، ثم تخلص لموضع رده، بعد الإشارة إلى جهود الأمير سعود بن عبد العزيز في نشر ألوية الأمن ببلاد الحجاز، وإماتة البدع وإحياء السنن، وختم مشيداً بسيرة الأمير سعود في القول والفعل رواية عن الواردين على مغناه من الحجاج المغاربة.
هذا، وقد كتب شاعر المغرب عن محوه للبدع والمعتقدات الغريبة على المجتمع الإسلامي آنذاك فقال:
لا شيء يمنع من حج ومعتمر
وزورة تكمل المأمول من حرم
إذ عاد درب الحجاز اليوم سالكه
أهنا وآمن من حمامة الحرم
مذ لاح فيها (سعود) ماحيا بدعاً
قد أحدثتها ملوك العرب والعجم
وقد صدرت عنه خطب ورسائل، حث فيها على نبذ البدع والتمسك بالسنن، ومن أشهرها رسالته التي وجهها إلى الأمة عن طريق خطباء المساجد، يخطبون بها في الجمع على سائر المنابر. ولا بأس أن نسوق لكم من هذه الخطبة الجليلة فقرة تدل على بقيتها فيما حوته من إرشاد للناس لاتباع السنن ومجانبة البدع: (أما بعد، أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدوركم، وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه أمركم ومأموركم.
فإن الله قد استرعانا جماعتكم، وأوجب لنا طاعتكم، وحذرنا إضاعتكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، سيما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية.
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوُا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}.
ولهذا نرثي لغفلتكم، أو عدم إحساسكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم، فألقوا لأمر الله آذانكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم، وطهروا من دنس البدع إيمانكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانكم، واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرق السنة لتسلكوها، وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها، وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرفوا فضله عليكم وعوه، واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون، وافترقوا أوزاعاً، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعاً، فيما هو حرام كتاباً وسنة وإجماعاً، وتسموا فقرا، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقراً.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة، وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة، وتلبيس وضلال، وتدليس شيطاني، وخبال زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتاً، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأوقاتاً).
وهذه النزعة السلفية الإصلاحية عند السلطان المولى سليمان هي التي دفعت به إلى التجاوب، بجدية وإيجابية، وبصدق وإخلاص، مع دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب السلفية، ومن بعدها، مع دعوة الشيخ ابن الفودي على ما تقدمت به الإشارة.
ولا شك أن ما كان يعرف المغرب، على عهده، من انتشار البدع، وفساد العقائد، وانطماس معالم السنن، كل أولئك كان، كذلك؛ ما زاد في احتفائه بالدعوة بعد أن استقصى أخبارها، وتحرى مضامينها فيما حمله إليه الحجاج عبر الرواية الشفوية، وفيما وقع له من رسائل ووثائق حولها.
(العلاقات الثنائية بين البلدين وأثر النهضة الفرنسية على الثقافة المغربية وأثر الثقافة السعودية على الثقافة المغربية):
لقد شهدت العلاقات الثنائية بين المملكتين في القرن الماضي ازدهاراً، بدا في كثير من المساعدات التي قدمتها الدولة السعودية لدول المغرب العربي وللملكة المغربية؛ لتتخلص من ربقة الاستعمار الفرنسي الذي جثم على صدرها أعواماً طوالاً؛ ما أثر في اللغة والثقافة العربية في المغرب؛ لتتجه إلى الثقافة الفرانكفونية التي حاولت بشتى الطرق فرض اللغة الفرنسية (لغة المحتل) لتكون اللغة الأم في المقررات التعليمية، وفي شتى مناحي الحياة العامة، والحياة الثقافية بشكل خاص. وللحقيقة، فقد استفادت المملكة المغربية من ثقافة المحتل آنذاك، ونهل المثقفون من الفرانكفونية والثقافات الفرنسية السائدة الزاد الوفير، إلا أن ذلك قد أثر في شتى مناحي الحياة، وقد أثر في خلق جيل كامل يتطلع ويهفو إلى النهضة الفرنسية التي كانت تنعم بها فرنسا بعد الثورة الفرنسية الكبرى، التي شهدت ازدهاراً في الثقافة والفنون وفي شتى مناحي الحياة؛ فوجدنا الهجرات المغربية إلى فرنسا، بل التوطن بها، ليس كوطن بالطبع، ولكن توقاً للتعلم والتعليم والاستزادة من الغرب الفرنسي آنذاك. وقد لا يعلم الكثيرون أن المغرب قد احتضن الكثير من سكان المملكة العربية السعودية والعرب من الفارين من بطش القادة في العصر العباسي الذي شهد هجرات أعداد غفيرة من بني أمية ومن العلويين؛ للنجاة من ملاحقة العباسيين لهم آنذاك، كما هاجر إليها بعض طلاب العلم ليتعلموا على أيدي كبار علماء المغرب في شتى مجالات الثقافة والفقه، بل في التصوف أيضاً؛ حيث نعم المغرب العربي بانتشار الفكر الصوفي والطرق الصوفية ووجود علماء الفقه والكلام والفلسفة والمنطق وشتى العلوم الشرعية. كما هاجر كثير من علماء المغرب العربي إلى المملكة العربية السعودية، سواء لزيارة بيت الله الحرام أو للإقامة للعلم وتعلم القرآن وعلومه على أيدي القراء السعوديين والعلماء والفقهاء الذين عرفتهم المملكة من أبنائها أو المقيمين في المدينة المنورة أو في مكة المشرفة.
(النهضة السعودية المغربية في عهد جلالة الملك عبدالعزيز بن سعود):
لقد شرف عهد جلالة الملك عبدالعزيز نهضة كبرى آنذاك، وكانت الوفود المغربية تسعى للإقامة في الأراضي المقدسة بغرض العلم والعمل كذلك، ومن هنا تمازجت الثقافات بفضل وجود الأماكن الإسلامية المقدسة، التي تعتبر المملكة السعودية قبلة للمسلمين جميعاً ومزاراً للقداسة الدينية وجامعة للعلم والثقافة الدينية والروحية والعلمية كذلك، كما قصدها الكثير من علماء العالم العربي والإسلامي، وكان يطيب لهم الإقامة بها، ومن أرض المملكة انتشرت العلوم الشرعية والفقهية وعلوم المسلمين، والتقى العلماء والأئمة والدعاة والأدباء والمثقفون على أرضها، وتدارسوا في المجالات العلمية والثقافية كافة. وكم احتفى الملوك السعوديون بالعلماء والمثقفين العرب، وأكرم الملوك السعوديون وفادتهم، وسهلوا لهم كل سبيل لنشر العلوم والمعارف والاستزادة من الإقامة، فكانت المملكة العربية السعودية نقطة تواصل ولقاء بين العلماء والباحثين وموئلاً للعلماء ورجال الدين من العلماء والمثقفين كافة في مشارق الأرض ومغاربها.
إذن، العلاقات التاريخية الثقافية بين المملكتين علاقات ضاربة في القدم، وتمتد جذورها إلى قرون عديدة - كما أسلفنا - وليست حديثة العهد بالطبع.
إن حضارة الأمم تقاس بعدد علمائها وبثقافتها وتطور فنونها وآدابها، ولا شك أن المملكة قد قطعت شوطاً كبيراً في هذا المضمار، وتواصلت مع موجات المد الحداثي الثقافي والأممي والعالمي، مع احتفاظها بمرجعياتها الثقافية، وثوابتها المستمدة من عظمة اللغة العربية والدين الإسلامي الحنيف، وكيف لا؟ وهي منارة العالم، بها بيت الله وكعبته التي تهفو لها أعناق المسلمين في جميع أقطار العالم العربي والإسلامي، وفي كل بقعة من بقاع العالم. وبهذه الثوابت الثقافية، وبالاتكاء على الموروث الديني واللغوي، مع الحفاظ على الهوية والثقافة العربية، استطاعت المملكة أن تأخذ من الأصالة والمعاصرة، كما استطاعت أن تحافظ على خصوصية الإسلام أمام دعاوى الغرب والهيمنة والعولمة وصراع الحضارات والثقافات. وطالما أن حارساً عظيماً مثل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله يرعى مهرجانات الثقافة كل عام فإن الثقافة خارج دائرة الخطر، بل هي في تقدم وازدهار وسموق بفضل الرعاية الملكية السامية.
(الانفتاح الثقافي والتعاون الثقافي المشترك والخطاب الثقافي
السعودي المغربي):
إن الحديث عن خطاب سعودي مغربي يتطلب تضافر كل الجهود العربية؛ لنعيد رتق المنظومة القديمة، والعمل إلى تحديث الفكر والثقافة بمزيد من الانفتاح والحرية على العالم؛ لنقارن بين أنظمتنا، ونحدِّث منها، ونطور من دساتيرنا العربية؛ لنرقى بالدول والحضارة والثقافة، ولسنا بأقل من هؤلاء المتشدقين بالحرية والسلام، وهم داخلهم القيود والاستسلام، ولكن الصمت العربي هو الذي جعلنا نهون على أنفسنا فهُنّا على العالم.
العرب والأمازيغ وأهل المغرب العربي جميعاً لهم أمجادهم وحضارتهم، وتاريخهم معروف، ودينهم هو الإسلام، ذلك الدين العالمي الذي جاء للعالم كافة، ويشرف العرب بأن اختصهم المولى - عز وجل - بهذا الدين، واختص المملكة العربية السعودية بأن تكون الحاضنة والأم لمهد العروبة والإسلام، وبوجود المقدسات الإسلامية - بيت الله الحرام - فهي مركز العالم الذي يجب أن يعيد إنتاجية الحضارة، وتصدير الثقافة الإسلامية السمحة التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف الخالد.
إن الحديث عن خطاب ثقافي يستدعي إعادة بناء المنظومة التربوية والأخلاقية والتعليمية، وإعادة بناء الدولة العصرية، مع الاحتفاظ بهويتنا وخصوصيتنا بوصفنا عرباً ومسلمين، لنا قيمنا وتقاليدنا المستمدة من التشريع السماوي العظيم.
إن تحديث الفكر والثقافة وإعادة إنتاجية خطاب ثقافي يجب أن يستلزم تشابك كل هذه المفاهيم وتناميها في هارموني متناغم، يحفظ للثوابت الثقافية وللشعر والأدب واللغة العربية خصوصيتهم، ومن ثم ننفتح على العالم الحديث بثقافته وتقنياته التكنولوجية مراوحين بين القديم والجديد، وبين الدين والعلم، وبين الدين والمجتمع والحياة.
فالسعودية والمغرب العربي تمتلكان كل المقومات، لكنهما تحتاجان إلى وقفة لمراجعة كل ما تقدم؛ لننهض بالعروبة والإسلام لآفاق أكثر رحابة، وأكثر سعادة.. ولعمري، إن تحديث الخطاب الثقافي السعودي المغربي يحتاج لمزيد من الانفتاح الثقافي أولاً، وخلق تآلف ثقافي وتنموي، يجمع الأشقاء ليزداد البناء روعة وسموقاً وبهاءً جديداً.
(أهمية الثقافة بين الدول خاصة
في المملكة العربية السعودية والمغرب العربي):
إن الثقافة صناعة بحسب قياس الجغرافيا الثقافية، التي تؤكد أن كل شيء صناعة، وله جانبان: جانب مادي، والآخر معنوي. والثقافة تجمع - في بعض الأحيان - بين الجانبين. إن العالم الآن يولي الصناعات الثقافية اهتماماً بالغاً؛ باعتبارها أحد العلوم التي تندرج تحت علم صناعة رأس المال الثقافي ذي الرؤى المتشعبة والمتشابكة، التي تعتبرها الدول من المعطيات الكبرى لتمرير سياستها الثقافية، بل تصدير خطابها الثقافي للعالم. وبالطبع فهي صناعة باهظة التكاليف، لكنها تأتي بمردودات اقتصادية واجتماعية وسياسية غاية في الأهمية القصوى بالنسبة للدول والحكومات، وبالنسبة للأفراد أيضاً.
ولنا أن ندلل إلى بعض الإشارات التي تؤكد هذه الأهمية، ومن ذلك تلك الاتفاقيات التي تقام بين الدول في مجال الثقافة والتبادل الثقافي والمعرفي والفني بين الشعوب ذات الأصول القريبة (ثقافياً) أو غير ذلك. وتعتبر سياسة الانفتاح الثقافي على العالم من أهم المرتكزات التي قامت عليها نظريات الحداثة، والعولمة، والشرق أوسطية والمتوسطية، وكذلك ما بعد الحداثة، وعصر المعلوماتية، والشبكات العنكبوتية الذكية، وغير ذلك من الصناعات التي أنتجت رأس مال غربياً، يحتاج إلى تسويق؛ فكانت الاتفاقات بمنزلة المعين الرائج، سواء بين المبدعين والكتاب والناشرين على المستوى الفردي، أو عقد المؤتمرات الثقافية الدولية لحوار الثقافات وتشابك الفنون والمعارف، وغير ذلك.
هذا، وتُعد معارض الكتاب والمؤتمرات الثقافية المشتركة والتبادل العلمي والثقافي بين الجامعات في الدول أحد أهم المنابر الأدبية والثقافية الكبرى، التي تعمل على توفير مناخ ملائم للالتقاء بين مختلف الاتجاهات الفكرية والأدبية في العالم العربي. كما يهدف المعرض إلى التعريف بالكتاب، والإعلان عنه، وفتح أسواق جديدة أمام آلاف الناشرين من المنطقة والعالم، في ضوء العمل على تحقيق فرص للتبادل الحر للكتاب في الشرق الأوسط، والتعرف على أحدث ما وصل إليه الفكر، وعقد الاتفاقيات للنشر والتوزيع، وتذليل صعوبة تسويق الكتاب من خلال تبادل حقوق التأليف والنشر والترجمة، ودراسة الوسائل والأساليب التي تساعد على نشر الثقافة والفكر. ويتيح المعرض الفرصة لتبادل الخبرات بين الناشرين، والموزعين، والمؤلفين، والأدباء، ورجال الأعمال، والأكاديميين، والمنظمات العربية والدولية.
إذن، تجيء أهمية معارض الكتب والمؤتمرات وتبادل الخبرات بنفع تنموي عام على الدول والحكومات، بما ينعكس على الأفراد أيضاً؛ لذا ظهرت السياسات الثقافية كمرتكزات تعطيها الدول الكبرى - خاصة لدى دول الهيمنة - أولوية، وذلك كان من أولويات الاستعمار لغزو العالم بثقافته والترويج لها، ومن ثم فإنه لن يحتاج بعد ذلك إلى غزو الأراضي وإهدار الطاقات وغير ذلك. إذن، فإن صناعة الكتب والسياسات الثقافية توليها الدول الكبرى أهمية بالغة..
ونحن العرب قد تنبهنا إلى ذلك مبكراً؛ لذا لم ينجح الاستعمار في غزونا ثقافياً - وإن حاول مراراً ولا يزال - وذلك لأننا نحن العرب نرتكز إلى ثوابت ومرتكزات ثقافية وحضارية تمتد حضارتها إلى سبعة آلاف عام، وتلك ليست شعارات نتشدق بها بالطبع بل شهد الاستعمار بفشله الذريع لطمس الهوية العربية والدين ومنظومة القيم؛ لأننا نرتكز إلى ثوابت تمثل الهوية، وكانت مرتكزاتنا هي اللغة العربية والدين الإسلامي الحنيف وكتاب الله - عز وجل - ثم تلك الكتب المتوارثة التي تمثل الهوية الثقافية والخطاب العربي القوي الذي يقف كالسد المنيع ضد هجمات الغرب المتشددة. ولقد قامت الدنيا للنيل من تراثنا وثوابتنا المعرفية والثقافية إلا أن المثقفين العرب تصدوا لها، ليس بالقول فحسب، بل بكم وكيف المنجز الثقافي العربي على مر العصور بدءاً بالعصر الجاهلي، وانتهاء بالعصر الحديث.
إن الكتاب - إذن - يمثل الحضارة والمدفع وعجلة الحرب التي نرتكز إليها، لمجابهة الأخطار التي تهدد ثقافتنا وتصفها - أحياناً - بالمتشددة أو الإرهابية، أو الأصولية. وتلك صورة مغلوطة للثقافة العربية في أذهان الإنسان الغربي، فمن ليس له أصل ومرجعيات وثوابت لن يقف في مجابهة وندّية أمام الهجمات الشرسة التي تراد بأمتنا العربية، وما الرسوم المتحركة الدنماركية وكتابات سلمان رشدي وغيره من الحاقدين ستؤثر في ثوابتنا، وهذه الثوابت هي نتاج لفكر عربي أصيل، فكر أضاء للعالم، في وقت كانت فيه أوروبا ترفل في ظلمات الجهل والظلام، فالعرب - ودون تحيز - هم الذين أضاؤوا للعالم ثقافاتهم، كما يُعزى إلى فكرهم كل نتاجات الحداثة التي يتشدقون بها علينا الآن، فقد وصل الإسلام إلى إسبانيا (بلاد الأندلس) وإلى الصين، قبل أن تكون هناك أمريكا، أو غيرها من دول العالم التي تملك الآن: الغذاء، والنفط والأسلحة، والقوة العسكرية، والعلمية، والثقافية.. وكم من علماء الغرب نراه يشهر إسلامه بفضل أنه ارتكز في معمله التجريبي على أفكار مستقاة من الثقافة العربية، ومن القرآن الكريم.
إذن، معارض الكتب - كمعرض الرياض الدولي للكتاب - لها دور حيوي ورائد في تصدير الخطاب العربي إلى دول العالم، كما أنه صورة صادقة لقراءة التراث العربي، جنباً إلى جنب مع المنجز الحداثي العربي للثقافة العربية الإسلامية في شتى مناحي المعرفة، والعلوم والآداب، والفنون، والفكر الإنساني، والجمالي أيضاً.
إذن، في هذه المعارض - كمعرض الرياض الدولي للكتاب - تتلاقى الأصالة مع المعاصرة، والحداثي مع الموروث، كما تلتقي الصناعات الثقافية الحديثة مع الصناعات التقليدية الموروثة، تلتقيان في تواشج لتأصيل الهوية الثقافية، في الأخذ بالموروث والقديم وتواشجه بالمستحدث؛ فنعزز هويتنا وثقافتنا وقيمنا الحضارية والإنسانية، ونطعهما ونغلّفها بمسحة التمدين والرقي، دون إغفال طرف عن طرف، ودون طغيان طرف على الآخر أيضاً، وبذلك نحتفظ بخصوصيتنا الثقافية دون ذوبان أو طمس في الثقافات والحضارات الأخرى، وبذلك نحفظ الهوية، والدين، واللغة، ونحافظ على موروثاتنا التي تمثل الهوية الأممية للعروبة والإسلام.
إن الثقافة هي المرتكز القوي لحوار الحضارات والثقافات، وهي الركيزة وصمام الأمان للدول العربية والإسلامية للاطلاع على ثقافة الآخر، التي طالبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بها حين قال: من تعلم لغة قوم أمن شرهم (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا، ونأمل في المستقبل القريب أن تمثل العلاقات الثقافية السعودية المغربية تكاملاً حضارياً وثقافياً، وتتماثل المشاريع الثقافية في مجالات الفنون والثقافة كافة، وكل المجالات إن شاء الله.