مدخل:
«إن صادفك الثعلب يوماً / لا تأمن
إن قدمت له لحماً / سيشق ثيابك
إن جردت له سيفاً / سيحطم قلبك
إن صادفك الثعلب يوماً / لا تأمن
لا تفتح بابك للريح»
(قصيدة لقاء الثعلب) ص 91
بهذه التحاذير.. والنواهي.. والزواجر. وبهذه اللاءات الثلاثة تنطلق قراءتنا / مقاربتنا في المدونة الشعرية للشاعرة الأردنية ميسون طه النوباني والتي حملت عنواناً لافتاً ومثيراً «رحيل امرأة» والصادر بدعم من وزارة الثقافة والإعلام عام 2010م.
(2)
يبدو «الثعلب» في إحدى نصوص اليوان كائناً لغوياً / أسطورياً يتنامى في ثنايا المدونة الشعرية التي بين أيدينا. فالثعلبية في دلالاتها ورمزيتها تشي بالمكر والخداع والقوة التي تعمل في الخفاء. وتبتعد عن المواجهة ولذلك فالثعلبية / بدلالاتها لا تجد فرصتها إلا إذا فتح لها بابً تدخل منه وتحق غاياتها..
الثعلبية / هنا هي الريح التي قال فيها المثل الشعبي!! (الباب اللي يجي منه الريح.. سده واستريح)!! ولذلك جاءت الثعلبية - في هذا النص موشومة- بالغائية المزعجة فالثعلب سيشق ثيابك إن قدمت له اللحم، والثعلب سيحطم قلبك إن جردت له سيفاً، والحل إذن (عدم الأمان) لا تأمن ولا تفتح الباب للريح!!
(3)
نتشظى «الثعلبية» برموزها ودلالاتها التي تتماهى مع النظرية الميكافيلية في كثير من نصوص الديوان « رحيل امرأة «. ففي النص الذي يحمل هذا العنوان ص ص 33-41 تتجلى الرحلة / الرحيل كونه وسيلة للتغيير/الانتقال من.. إلى، هنا تظهر جرش المدينة الحاضرة الغائبة فمن وحيها تتسربل اللغة الشعرية بفضاءات الرحيل الذي يجعل من قسمات المرأة الراحلة تنتصر لأنها تذكرت كينونتها الماضوية السابقة قبل الرحيل:
* * *
* أو أرتميس: وهي آلهة الصيد والبرية والإنجاب والخصوبة، كما جاء في الميثولوجيا الإغريقية.
- «تذكر أني كنت هنا..
- في تلك الأيام أنا.. كنت هنا
كان ردائي قمراً يزهر
ثم تتذكر مآلاتها وآلامها بعد الرحيل - «تعبت راحلتي
- في غفلة روحي/ سلبت أمتعتي
- صلبت في قوس النصر مناديلي»
وتتذكر واقعاً غادرته:
- «الورد المنثور على العشب
- روائح عطرك دانية
- فأشم ظفائر أمي
- صارت صحرائي خاوية
- وسمائي من غير عيون»
وتتذكر تمنياتها ب(لو) الدالة على امتناع الشيء لامتناع غيره -كما نشير كتب النحو-
- ((لو أني غصن محنيٌ / لتفيأ ظلي ألف مسافر
- لو كنت غبار الأرض.../ لاختبأت أوصالي تحت جناح العصفور
- لو كنت عبير الزهر وقلبي... / لتضوع من روحي عطر الشوق
- لو كنت خيوط الشمس...
لو أني أملك يومي والأمس / لتجذر ساقي في عمقك عذراً عن كل رحيل.
وكل ذلك يصب في دلالات الرحيل الذي حدث للمرأة الراحلة عن فضاءات محبوبتها مدينة جرش / الحضارة.. جرش / الآثار، جرش أرتيمس، جرش :
- «دروب العشق المروية بالنور
- سنابل قمح تنظر للتنور
- ورأيتك كاسية بالزعتر والطيون»
ص ص 53 - 56
وفي نص (وطن ومهاجر ص ص 53-56) تبرز الرحلة ويتنامى الرحيل كصياغة نفسية ولغوية من خلال العنوان أولاً حيث كلمة مهاجر تعني الرحيل والانتقال من.. إلى عبر الصور (صور ترحل) والمنازل (ومنازل هاربة) والإبحار (أبحرت قرابة قرن) والغربة (غربة روحي)...
كل هذه المفردات التي تقود القارئ إلى الرحيل والرحلة والهجرة، تتنامى من خلال (الوطن) الذي يفقده العاشق واقعاً.. وذاكرة.. فقد كان -هذا الوطن- (حكايات العشق وأفراح التنور) وكان وطناً (يحل في كف عارية). ثم يتصاغر هذا الوطن الكبير ليصبح (مفتاحاً للدار) و(وكتاباً للقراءة) و(يد خضراء تنثر في الأرض ثماراً) لكنه سرعان ما يتحول (أبواب للنار، كفن يلبس، روح تتغرب).
ومن خلال هذه الصور السلبية للوطن والتحولات النفسية من عشق وحب إلى (أكفان تلبس) و(أبواب للنار تفتح) تتضح قدرة الشاعرة على تصوير الذات الجمعية أمام ثعلبية الواقع المرير الداعي للهجرة والاغتراب والرحيل!!
ولو تتبع القارئ / الناقد مفردات الرحيل وتداعياتها ورموزها ودلالاتها لوجدناها تتشظى في جميع أو أغلب نصوص الديوان مما يعطي وجاهة لاختيارها عتبة للديوان من خلال العنوان الكبير الجامع والشامل لكل هذه النصوص. وبإحصائية سريعة نجد ما يلي:
عدد قصائد الديوان (21 قصيدة / نص) عدد مفردات الرحيل ودلالاته (38 كلمة) وهذا يعني أن إحدى الشفرات لقراءة الديوان قراءة جمالية هو ملمح العتبة النصية التي يحملها عنوان الديوان الذي كان أصلاً عنواناً لإحدى القصائد المهمة فيه!!
(4)
ومن جماليات هذا الديوان ونصوصه الشعرية، تماهيه مع ما يعرف نقدياً بـ»الأسطرة الشعرية» والتي تعنى قدرة الشاعرة على استدعاء الأسطورة من بعدها الميثالوجي وتوظيفها في فضاءات النص الشعري بحيث تتشكل الصورة الأسطورية التي تتماهى مع مرادات الشاعرة ورؤيتها الخاصة فمثلاً نجدها تستدعي أسطورة «عشتار» المعروفة في الأدب البابلي العراقي والفينيقي أنها آلهة الجمال والحب والجنس في قولها:
«سترى عشتار تمشط أهداب الأرض
تزهر في يدها الصحراء
ترتشف رحيق الكد
فتعانق جنة حوران
« ص 12 أغنية للبتراء»
المعروف أن عشتار في بعدها الأسطوري / الميثالوجي - هي مكمن الحياة والعطاء، والخصوبة والنماء، وهاهي الشاعرة توظف الأسطورة وتخلق منها كائناً لغوياً (يمشط أهداب الأرض وتزهر منها الصحراء وتعانق جنة حوران)!! كما نجدها نستدعي «آرتيمس» آلهة الصيد والبرية عند الإغريق ثم توظفها في نصها الموسوم بـ»رحيل امرأة» عند ما تقول:
«أرتيمس
كيف ارتطمت يمناك بساقيتي؟
فأرتجع الورد
كيف حصدت الدحنون
صارت صحرائي خاوية...
* * *
وسمائي من غير عيون...
ورأيتك كاسية بالزعتر والطيون»
رحيل امرأة ص ص 37 - 38
وهنا يتضح البعد الأسطوري والتوظيف الشعري الذي قد يتطابق مع الدور المعرفي للأسطورة وتحولها إلى كائن لغوي شعري!!
كما نجدها -أخيراً- تستدعي أسطورة «ميدوزا» وهي آلهة إغريقية كانت فتاة جميلة فعلت الفاحشة في المعبد فتحولت إلى امرأة قبيحة وشعرها إلى ثعابين وكل من ينظر إليها يتحول صنماً / حجراً.
وهنا تتضح الرؤية الشعرية عند «ميسون النوباني» في نصها (فجر المدينة) ص ص 43-47 التي تتماهى مع هذه الأسطورة وتصنع من خلالها طقسها الأسطوري تقول:
«ميدوزا تصنع من إكليل الغار
صنماً يتعرى كل مساء
كي يبحث عن زورق
ويحلق في الجارية العمياء»
ومن هذا النص يتضح مدى التوافق بين الأسطورة الحقيقية والأسطورة الشعرية التي توظفها الشاعرة في نصها وتخلق من خلالها طقساً أسطوريا منتجاً للدلالة ومهيئاً للرموز الأسطورية.
ولو حاولنا تتبع كل الأبعاد الأسطورية في قصائد هذا الديوان لاستغرقنا مساحة أطول ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق فهناك آدوم، والمارد، وجيش الروم، والحورية الغجرية، والتمائم، وأبوللو، والعنقاء وغيرها.
(5)
ثمة دلالات ورموز آيدولوجية تستبطن بعض نصوص الديوان، وتتماهى معها الشاعرة كثقافة فقط -وليس إيماناً أو اعتقاداً- وذلك يخلق شيئاً من الجمالية الشعرية نستوحي أبعادها من التوظيف الفني لتلك الرموز، ففي نص (وطن ومهاجر) ص ص 53-56 تقول:
«سكنت في جلدي
صور ترحل
ومنازل هاربة
وتراب أحمر
بعضى كفن
بعضى منجل»
إن التراب الأحمر، والمنجل، من الرموز والدلالات الشيوعية، لكنها شعرياً تتحول إلى رموز ودلالات زراعية / وفلاحيهَ - فالمزارع / الفلاح لا يستغني عن التربة الحمراء الصالحة للزراعة والإخصاب، ولا يستغني عن المنجل للحصاد وفي هذا استدعاء وإحياء لدور العمال والفلاحين في الأراضي الزراعية التي تركتها الشاعرة في الوطن المهاجر من زراعته إلى الصناعية، ومن البداوة إلى التمدن والمدنية.
وفي نص (موت القيثارة) ص ص 67-69 تطالعنا تلك الرموز التي توحي بأيديولوجية عرفها المعسكر الشرقي بلون الدم / الأحمر فانقادت لها السياسة بكل معطياتها الحضارية. تقول الشاعرة:
في لجة شمس حمراء
تستيقظ روح العتمة
تتكور ألسنة الفقراء
... إلى أن تقول:
عصروا من دمك رحيقاً للورد
فلماذا أنت؟
فالشمس الحمراء، وألسنة الفقراء، والدم المعصور رحيقاً للورد، كلها ترمز إلى تلك الأيدولوجيا، لكنها شعراً نتحول إلى منظومة من التداعيات الوجدانية التي تخاطب فيها الشاعرة ذاتاً أخرى:
- «قيثارة عشقك لا يطفئها البرد
- وتدَوى روحك في الأرض نماء
- ولماذا رأسك يتدحرج...
- لن ينفعك السحر الأسود
- حلق في ذاتك فجراً
- أبدياً لا ينضب».
فما بين العتمة التي تستيقظ في اللجة الحمراء وبين التحليق في الذات فجراً لا ينضب، تبدو المفارقة الشعرية، والأبعاد الوجدانية التي تصنعها اللغة الشاعرة بعيداً عن ايدولوجيا السياسة والمعسكرات الدموية!! وقريباً من التراب الذي يحتضن أغلى الناس، وحبات المطر تنزل سخية على جباه الكادحين « كما قالت في الإهداء ص 5.
(6)
وتأخذنا المقاربة النقدية إلى تخوم الديوان الأخيرة حيث تطالعنا النصوص الإبداعية القصيرة التي يسميها النقاد (ق. ق. ج) القصائد القصيرة جداً، وهي ما يمكن أن نسميه فن الحذف والتقشف اللغوي أي القصائد التي لا تلجأ الشاعرة فيها إلى التطويل الممل والاكتفاء بتكثيف اللغة، والهًم الجمعي اليومي، والبعد عن البلاغة والتقعر الخيالي.
تقول في نص سحابه ص 83:
«لو أنني طفل / أبكي على صدر الغيوم / وسحابتي أمي / تغفو على يدها الهموم, لو أنني ورقة / أجتر أوردة الحياة / وأعود للشجرة».
نجد النص هنا يحمل ثنائيتين: الطفولة / الأم
ويقابلها ثنائيتي: الورقة / الشجرة
فالطفل لا يستغني عن الأم التي هي غيمته، هي اليد التي تذيب الهموم.
والورقة لا تستغني عن الشجرة فهي امتداد عضوي يهب الحياة!!
بمعنى أن الأم هي الشجرة وهي مصدر الحياة!!
وفي نص نقطة ص 93 تقول الشاعرة:
«ألهث خلف النقطة / تجذبني فأجوع / وربيع تلو ربيع أحصده / خلف النقطة / لكني أصل فيسحقني صفر الأشياء / ولعلي أبدأ ثانية / أبحث عن نقطة»
هذا اللهاث.. والتعب بحثاً عن النقطة (.) عن (الصفر) والنتيجة لا شيء, حياة الإنسان بحث وجوع ومسير طويل في دوائر لا نهائية!!
أليس هذا سؤال الوجود الذي جاء في قصيدة حلم ص ص 19-20 حين تقول الشاعرة:
«أبحث عن سر وجودي
* * *
أتطاير مثل شعاع
في ليل تكسوه الظلمة»؟!
وهناك مجموعة من النصوص القصيرة جداً التي تفاجؤك بعمقها وكثافة لغتها مثل / العنكبوت ص 79، افترقنا ص 83، القمر النائم ص 85، عوده ص 83 لقاء الثعلب ص 91»
خاتمة:
... ولعلي أختم مقاربتي النقدية لهذا الديوان الماتع حقاً، مؤكداً على ما قاله الناقدان حكمت النوايسة، وجعفر العقيلي اللذان أكدا -كما جاء على غلاف الديوان الأخير- على شاعرية صاحبة الديوان ميسون النوباني وفرادتها غير المرتهنة للأصوات الشاعرة المجايلة، وقدرتها على توظيف القلق والمواجع، ومرارة الدنيا في نصوصها الشعرية. وكذلك ما تفضي إليه أغلب نصوص الديوان من رموز ودلالات أسطورية تكشف فضاءات الديوان المرجعية سواءً الأسطورة ودلالاتها وتشظياتها اللغوية والفكرية والميثولوجية أو تشظياتها عبر حركتها التاريخانية.
وبذلك تتشكل النصوص الشعرية عند ميسون النوباني ضمن الفضاءات الإنسانية الرحبة بعيداً عن الغنائية الفجة، والصور المترهلة.
وهي بكل ذلك تسمعنا صوتاً شعرياً / أنثوياً / أردنياً / عروبوياً معاصراً نقف عنده بكل ابتهاج.
جدة