(أ)
لئن كانت عصمةُ النفس جوهراً في وعي الإنسان فإنّ الإتقاء والتَّقِيّة أصلٌ جُبِلَ الإنسان عليه في محلّ العقل والقول والفعل، وأيّما وسيلة يتّخذها الإنسان تقاءً لمخاطر تُحيط به فإنّها خدمة للغاية العُظمى: (عصمة النفس)؛ وهي الباقية معه ما بقيَ حيّاً واعياً، فلا يفرّط بها من تلقاء نفسه إلاّ بوعي صادقٍ منه أو بوعيٍّ ضليل. وكلّما زادَ الإنسانُ علماً ومعرفةً وصناعةً فإنّ الإتّقاء من المتقادم المألوف ينزوي، ويظهر اتّقاء جديد لمواجهة المستجدّات والصعوبات الراهنة، لكنّه لا يختفي نهائيّاً؛ والتقيّة ليست محصورةً على الماديّات والمصنوعات من الأشياء والأفعال ودلالتها الماديّة مبنيّة على العمل والإنتاج اتّقاء من مخاطر عدم وجود هذه الأفعال والأشياء، إنّما هي أيضاً ثقافيّة ودلالتها مبنيّة على الكتمان أو الإظهار الفكري التوافقيّ مع الأقوى، حين يتّقي بها المرء عواقب الإعلان عن معتقداته وأفكاره وآراه في ظرفيّةٍ يظنّها تقوده إلى مهلكة النفس. والمقصد من هذا الاستهلال مناقشة العلاقة بين المصطلح الجدلي بوصفه كاشفاً لهويّة الفاعل الجدلي وبين التقيّة الثقافيّة والاصطلاحيّة، وفقاً للتساؤلات التالية: لماذا يشوّه المثقّف السعوديّ دلالات المصطلح الغربيّ خارج إطاره الجدلي عبر التهجين والتوليف والطبطبة، وكيف يمكن أن يُستفاد من مصطلح يُنقل مبتوراً عن نشأته المعرفيّة والعلميّة إلى فضاءٍ لا يستند إلى الظروف ذاتها؟ ولماذا عجز في تجارب عديدة عن توطين هذه المصطلحات؟
(ب)
وأبدأُ من حيث إنّ هذه المصطلحات ذات الإشكال الجدلي إنّما هي نتيجة صناعة الحضارة، وكلّ صانعٍ بالضرورة هو مُنتجٌ لفضاء من (المعاني والمفاهيم) وأخرى متقدّمة من (فضاء المصطلحات المختصّة أو الجدليّة) في محلّ صناعته وإنتاجه؛ وصناعة المصطلح ناجمة عن تطوّر في المعاني والمفاهيم تظهر من خلال حضارة مؤثّرة معرفيّاً وعلميّاً وإنتاجيّاً، تؤمن بالتطوّر ولا تقف عند موروثات الإنسان الفكريّة بوصفها نهائيّة، كما أنّها لا تستسلم لمخرجاتها، فالشكّ والحريّة والقوّة عوامل متداخلة في حضارة الغرب اليوم، المستندة إلى منظومة دائريّة من الحقوق العلميّة والمعرفيّة بين: (الشك والفكر، والتجربة والملاحظة، وإعادة الشكّ)، وهذه المنظومة تنشئُ فضاءات من المعاني والمفاهيم، التي بدورها تسهم في صناعة المصطلحات الاختصاصيّة/غير الجدليّة، والمصطلحات الفكريّة الجدليّة؛ هكذا يمكن تعريف (الاصطلاح): أنّه منظومة معرفيّة وإنتاجيّة وتقويميّة تؤدّي إلى صناعة المصطلح لتأطير الانفلات الدلالي في دورة المعاني والمفاهيم في فضاء جدليّ أو اختصاصي.
* * *
وبالعودة إلى أسئلة الموضوع، فإنّه يجدر الإشارة أنّ علاقة المثقّف السعودي بالمصطلح الجدلي، علاقة مستهلك ومستورد، وليست علاقة فاعل جدلي من درجة صانع بل درجة ناقل، لأنّه يفتقر لأسس صناعة المصطلح: (القوّة المركزيّة، العلم والمعرفة، الحريّة والشكّ)، وهذا الافتقار يقابله تعثّر بنقل المصطلحات من مركز الحضارة إلى بيئة منغلقة غير مؤهّلة، ممّا ينتج تيهاً اصطلاحيّاً لأسباب منها: (أ) التحريم والتجريم: غياب حقوق الحريّة والشكّ والتعبير (ب) التجهيل والتشويه: نقصان المعرفة والقوّة، (ج) العجز والفقر: انعدام الإنتاج الحضاريّ، فكلّ إنتاج يعقبه تجدّد في اللغة والمعنى والمفهوم والمصطلح، وكلّ مُسْتَهلكٍ لا يُنتج هو تابعٌ بالضرورة لصاحب الإنتاج واشتراطاته. (د) التيه المقصدي: عدم وضوح ما يريده الفاعل الجدلي/الناقل من دخوله الفضاء الجدلي.
ولأنّ المصطلح كشفٌ للهويّة الفكريّة للناطق الجدلي، فإنّ (التقية الاصطلاحيّة) تزداد بين المفكّرين والمثقّفين تأثّراً بغياب حقوق المعتقد والحريّات والمعرفة الماديّة والمتجدّدة. ولأنّك لا تنتج مصطلحاً بل تستورد، فإنّك لا تتوقّع قبوله دون تأهيل واشتراطات معرفيّة وأخلاقيّة متشابهة، لأنّ ولادة المصطلح لم تنشأ من فراغٍ بل هي تطوّر طبيّعيّ ومعرفيّ عند الصانع. فما نفع استيراد مصطلح من بيئة هيّأت ظروفه وتأقلمت مع تفعيله إلى بيئة لا تتوفّر فيها الظروف عينها، وتتوجّس من الغريب، ويغدو المصطلح ممثلاً عن الغريب، ولعلّ في هذا ما يسبّب ظهور رُهاب المصطلحات لأنّها قادمة من عند (الغريب).
لذلك تجد المثقّف السعودي –وبعضاً من مفكّري العرب- حريصاً على أسلمة المصلطحات (أسلمة السوق الحرّ والرأسماليّة، الليبراليّة، الديمقراطيّة وغيرها) وكلّ هذا التشويه المعرفيّ الذي يُخرج المصطلح عن طبيعته (الاختلافيّة) داخل إطاره الجدليّ، إلى إطارٍ أحاديٍّ (اتّفاقيّ وتوافقيّ) يخصّ الفكر الإسلاميّ، أو ما يمكن إخضاعه وتوليفه بالتجهيل وبالتبسيط تحت عباءته (تقيّةً) من ردّة الفعل الرسميّة والشعبيّة عبر ما يملكه الفكر الديني من قوّة ونفوذ، تجعله سبباً ضاغطاً في ممارسات الطرف الآخر للتقيّة الثقافيّة؛ فإلى أيّ مدى نجحت التقية الثقافيّة السعوديّة في تحقيق أجندتها، إن كانت لها أجندة في المعرفة والتقدّم؟ أمْ كانت كلّ تلك السنوات والتجارب محضّ عبثٍ يفضي إلى المزيد من التراجع الفكريّ؟ والمجد دائماً للموتى والماضي التليد، أمّا الحاضر فلا أحد يريد أن يحيا فيه.
هكذا، لا نتوقّع أن يقوم المستهلك للمصطلح بتبنّي التصريح الصريح بقبول دلالته واشتراطاته المعرفيّة والأخلاقيّة في بلد الصانع. فماذا يمكن أن نسمّي هذه الحالة السعودية الفريدة في التعامل مع مصطلحات: (كالحداثة، المواطنة، البرلمان، الليبراليّة، اليمين، اليسار، الديمقراطيّة، العلمانيّة، العولمة، المساواة) وإلى آخر تلك المصطلحات الحضاريّة المستوردة من بلاد نعتاش من وراء منتجاتها وصناعاتها وأدويتها وتقدّمها، ونرفض التعايش مع الاستنادات المعرفيّة والأخلاقيّة التي أهّلت تلك المصطلحات والمنتجات.
(ج)
إنّ التجارب العربيّة والسعوديّة في مجال أسلمة المصطحات لم تُفضِ إلى بناء منظومة معرفيّة تؤهّل المنتفعين من وراء هذه الأسلمة للاستفادة المدنيّة منها، بل وتُفضي إلى نتائج عكسيّة، لأنّها تجعل من التراث وصيّاً ومصدّقاً على الحاضر، وفي هذا ما يزيد الإشكال بين ثقافة المصطلحات المستوردة وثقافة البيئة المنغلقة. أمّا الحجّة التي تستند إليها تلك التجارب فإنّ المقتضى فيها حجّةٌ عليهم، وليست حجّة لهم؛ فأوّل مجابهة أمام أسلمة المصطلحات تبدأ بالتساؤل المنطقي التالي: (لماذا الحاجة إلى المصطلح الغربي لطالما له وجود إسلاميّ!) وهذا ليس تساؤلاً بقدر ما هو تقريرٌ وقرارٌ بسبب هزالة الحجّة في (الأسلمة)، فيكون التساؤل التقريري بحدّ ذاته جزءاً من المفاهيم المستوردة على نيّة الأسلمة؛ فالديمقراطيّة –مثلاً- ينتهي البحث فيها بمجرّد أسلمتها بمفهوم الشورى، والواقع أنّ المفهومين لا يلتقيان أبداً إلاّ تحت جُبّة التقية.
(التقية الاصطلاحيّة) إذاً: تشويه الفضاء الجدليّ للمصطلح المستورد خشية التصادم مع مرجعيّاتٍ ما زالت لها الغلبة على صُعُدٍ عدّة، فلا يكون المثقّف السعودي –حينها- فاعلاً جدليّاً في نطاق استهلاك المصطلح بل يكون فاعل التقية الاصطلاحيّة، لأنّه –هاهنا- لا يضيف بُعداً فكريّاً داخل فضاء المصطلح الجدلي، بل يمارس تقيّه ثقافيّة مرتجياً من ورائها رخصة للمبادلة بين الجديد والقديم، وهنا يقع التعارض الثقافي والأخلاقي، الذي يجعل من ناقل المصطلح ناقلاً لبضاعة يدّعي بنفسه وجودها في القديم؛ فإمّا أن يترك ما نقله ويتمسّك بالذي يدّعي توافقه مع المستورد، أو أنّه قد وقع في شرك التقيّة الاصطلاحيّة، فأيّ منفعة ترتجى من علمٍ مشوّه! وإلى أيّ مدى تخدم التقية الثقافيّة نشر المعرفة أو القبول الثقافيّ للحضارة الغربيّة على مستوى الفكر والثقافة والأخلاق وليس على مستوى المنتجات الاستهلاكيّة والحياتيّة فقط؛ وكم من الوقت سوف تستمرّ قدرة التحصّن من ثقافة الصانع ومصطلحاته وما بُنيَ عليها من معارف واشتراطات عبر استخدام حضارته ومحاربة أسسها العلميّة والمعرفيّة!
إنّ المسألةَ مرهونةٌ بالوقت، والوقتُ دائماً لصالح صانعي الحضارة وأسسهم الفكريّة، وأيّ تقيّةٍ مفروضة الآن بقوّة الواقع وضروراته فإنّها قد تؤجّل المواجهة حتّى تتقلّب الظرفيّات، لكنّها –حتماً- لن تلغيها.
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة